شارع الثورة.. أو مرآة حياة دمشق اليوميّة/ رهام كوسى
أحد كليشهات الثورة التي انتشرت افتراضياً قبل عامين تقريباً، أن شارع “الثورة” في دمشق يفضي إلى طريقين، أحدها إلى شارع النصر والآخر لسوق “الحرامية”، أيهما ستسلك الثورة؟ يجمع كثيرون ممن وجدوا أثاث منازلهم يباع على الأرصفة أنها انتهت إلى الطريق الثاني. يختلف “الحرامي” باختلاف الرأي السياسي بين السوريين، لكنهم يتفقون على شيء واحد، أن منازلهم كانت أكثر أمناً قبل الأعوام الثلاثة، تفاصيل أخرى يتفقون عليها ضمن المونولوج اليومي الاستهلاكي الذين سقط فيه معظم السوريين.
في طريقي الاعتيادي من الجامعة إلى الإذاعة، أمرّ بالشارع البرتقالي. لا أدري لمَ لوّنته بهذا اللون. أترجل تحت جسر الرئيس، أمشي أملاً بأن يسعفني باص آخر إلى ركن الدين. لم يعد مرعباً منظر السيارات المصطفة دون تحرّك أعلى جسر فكتوريا، من التكية السليمانية إلى نهاية الشارع. بالحديث عن تحفيز السياحة في سوريا، واقتراح رئيس الحكومة إنشاء “تلفريك” هنا، أصفق للفكرة الذكية. حبذا لو ينشئون “تلفريك” بين شارع الثورة وجسر الرئيس، بالضبط من فندق “فورسيزنس” حتى المبنى الرمادي المهجور، يبدو المشروع منطقياً كحلّ مؤقت ريثما تتم الاستفادة من الأنفاق الضخمة التي باتت تنام دمشق عليها الآن.
اليوم، للمرة الأولى يكلمني شارع الثورة بحديث خاص عن الأزمة هنا. ينكزني عند المصرف المركزي لأراه بعيون جديدة. مع اهتراء كل تفاصيله تصعب المحاولة، لكن علّي أستطيع.
ليس شارع “الثورة” أجمل مكان في دمشق أبداً. حتى قبل الأزمة، لم يكن من السهل أن تجد مكاناً لركن سيارتك هناك. أما الحصول على كرسي متعب في ميكرو باص صغير فليس مهمة بسيطة. إغلاق ساحة المحافظة زاد الأمر سوءاً، ليمسي الحاجز عند جسر المشاة القشة التي لم تستطع حتى الآن أن تقصم ظهور السوريين، الازدحام ذاته، يمتد ساعة الذروة من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً. بوجوه منهكة يصمّم السوريون يومياً على المضي قدماً، حتى في تدافعهم أمام باصات جوبر مزة ومساكن برزة، لا يتراجعون عن الركض في سبيل الحياة، جعلوا توصيفها أولوية ثانوية أمام إبقائها على أقدامها أولاً.
نعود لما حدثني الشارع به ظهر اليوم. بدأ الكلام معتّداً بنفسه أمام بسطات الكتب البالية تحت جسر فكتوريا، تعكس العناوين الملقاة هناك “السطح الثقافي” للسوريين. يتراوح سعر الكتاب بين ثلاثمئة وخمسمئة ليرة سورية، أي لا يتجاوز سعر معظمها ثلاثة دولارات، مع ذلك لا مشترٍ لها إلا فيما ندر. أتحوّل من روايات باولو كويللو وأحلام مستغانمي إلى كتاب غينس للأرقام القياسية. أرجّح أن النسخة الأخيرة منها ستكون للسوريين فقط. قلد حطموا أرقاماً كثيرة، آخرها عدد اللاجئين في الخارج. يخبرني الجسر أن التاريخ سيذكر السوريين طويلاً، وذلك يكلفهم الكثير اليوم.
أجتاز سوق “الحرامية”. أقمع رغبتي اليومية بالمرور لتفقّد آخر المسروقات. في المرة الأولى لاكتشاف السوق المزدحم كنت أبحث عن براد مستعمل. بعد بحث قصير وجدت ضالتي. لم يكن سعره تشجيعياً أبداً، ذلك أن من نهبه من منزل نازح، خاطر بدمه حتى يحضره هنا. بعد اتفاقي على السعر أخيراً، لم أستطع تجاهل الملصقات الطفولية الموضوعة على باب الثلاجة. عجز دماغي عن إقناع ضميري أن منزلي في المخيم سرق حتماً، وأن لا ضرر في التعويض عنه. أمام وجه والدي إثر اكتشافه سرقة منزلنا الآخر في حمص، عدلت عن الفكرة تماماً.
أقرر أني لن أستقل الباص هذا النهار. أجتاز مدخل سوق ساروجة إلى سوق الخجا. تعتبر مقاهي السوق شعبية ومرتبة في آن معاً، يحرص مرتادوها على تجاهل حديث السياسة هنا، ليبقى الكلاسيكو الإسباني حاضراً دوماً على طاولات الجميع.
على الرصيف، يلفتني صندوق ورقي صغير وضعت عليه بضعة أقلام حبر حمراء، لا يتجاوز عددها العشرين. هناك من يبيعها حقاً، وهناك من يشتري. أوباما في تصريحاته الأخيرة ذكر أن هناك خطوطاً يجب ألا يتم تجاوزها في الشأن السوري، مسقطاً للمرة الأولى ذكر لونها. يبدو أنه سيحتاج رزمة من الأقلام المرمية على وجه السرعة.
حذاء بالحجم العائلي أمام محل للأحذية قبل سوق الخجا بقليل. رغم التلوث البصري الحاد الذي يخلقه وجوده الدائم هناك، لا يمكنني إلا أن أضحك كلما مررت به، ليس لبشاعة تصميمه وحجمه الضخم فحسب، بل لرداءة الفكرة. لا تصلح تلك القطعة الفنية الرديئة كعمل إعلاني على الإطلاق، لا يمكن أن يباع كحذاء لأي مخلوق غولي أيضاً، اللهم إلا للمجتمع الدولي الذي اهترأت أقدامه نتيجة السير قدماً في الملف السوري دون جدوى. تلزمنا فردة أخرى لتكون الهدية كاملة، أو ربما لا يمتلك مجتمعنا الدولي إلا قدماً واحدة، لذلك ربما لا يستطيع إلا الدوران حول نفسه. على الأقل لن يكون حافياً في المستقبل.
أصل سوق الخجا، والحقائب المرمية بكثافة على الجدران، فوق الرصيف، داخل المحلات. يحتاج السوريون آلافاً منها كل يوم. لم يبق من أصدقائي داخل البلد إلا قليلين. شخصياً أحرص على إبقاء حقيبة سفر إضافية تحت سريري، بعد النزوح الأول، نعتاد النزوح، وحقيبة تجرّ على دولابين هي العدّة كلها.
تضع المؤسسة الاستهلاكية بكل صفاقة إعلانا يقول إن 200 ليرة هي سعر كيلو التفاح الأحمر، أما الأصفر فهو بمئة وتسعين. ليس تفاح حواء بالطبع، لكن هناك من يأكل التفاح حقاً في هذا البلد! ازدحام اعتيادي أمام آلات المصرف العقاري، بداية الشهر ولا بد أن رواتب الموظفين قد صرفت. أؤجل وقوفي في الطابور المبعثر لغد أو بعد غد، ذلك أنني وجدت 600 ليرة في جيب سترتي، لا أزعم أنها ستكفيني بضعة أيام، لكن بالاعتماد على “سندويشات” المنزل، يمكن أن أتغاضى عن راتبي ليومين إضافيين.
ينتهي شارع “الثورة”، يتلاشى الزحام. لحسن حظّ غير مبرر يتوقف باص النقل الداخلي أمام قدمي، أتجاوز الدهشة متشبثة بالباب بأنوثة أرميها تحت أقدام المتشبثين الآخرين. أعدل وقفتي متسمرة أمام السائق دقائق قصيرة، أنزل عند الإشارة ملقية الشارع البالي وراء ظهري حتى المساء. لا يختلف الشارع البرتقالي كثيراً مساء، كما لا يختلف السوريون. تبدو الأشياء أهدأ لأنه ليل فقط. يعود الخلق التالي مع الصباح الجديد. شارع الثورة مرآة للأزمة الحياتية التي يحياها الدمشقيون يومياً. في كل مدينة لا بد من شارع كهذا، شاءت الصدف أن يحمل اسم الثورة في دمشق.
السفير