شاعرات من إيران: أكتبُ فوق الصخر قصيـدةً تقرأها أنت
ترجمة وتقديم: مريم حيدري
لم يشهد التراث الشعري الفارسي كما العربي في قرونه الماضية تجارب نسائية كثيرة في الشعر والأدب. كما أن المرأة كاتبة للنص أو حاضرة فيه كانت تعاني من ظروف ورؤى وقيود أنتجتها سيادة البنى التقليدية والدينية في المجتمع. وهكذا استمرّت الحال حتى القرن العشرين، حين جاءت التطورات الحديثة في المجتمع الإيراني، وأثرت الرؤى الاجتماعية وتطلعات الشعب عامة والنخبة والمثقفين والمرأة بشكل خاص. حاولت المرأة الإيرانية أن تؤكد حضورها في المجتمع ومؤسساته بأنواعها المختلفة، ولم يكن الأدب بعيداً من هذه التطورات. ويمكن اعتبار الشاعرة فروغ فرّخ زاد (1935ــ 1967)، أول من عبّرت في شعرها عن هوية مستقلة للمرأة الشاعرة على رغم أنها كانت مضطرة لتذكّر الجميع بين تارة وأخرى بأنها «امرأة». تقول: «وهذه أنا/ امرأة وحيدة على عتبات فصل بارد». كتبت فروغ شعرها الجريء الحافل بالمشاعر الإنسانية والنظرة المتأملة لتكون رائدة لشاعرات ظهرن بعدها ليتحدثن اليوم باسم الشاعرة الإيرانية المعاصرة.
تأثرت بها وبحريتها في الحياة والشعر شاعرات كثيرات في إيران، ووصلت أشعارها إلى قراء بلغات أخرى أيضاً. وفي الأجيال التي تلتها، واصلت الشاعرة الإيرانية تسجيل همومها الفردية والاجتماعية في الشعر، فمنهن من كتبت قصائد رائعة متأثرة بالحرب العراقية الإيرانية وبرؤية إنسانية دقيقة (فرشته ساري)، ومنهن من كتبت عن قضايا تهم المرأة بشكل عام والشاعرة بشكل خاص كتعرض المرأة للضغوط الاجتماعية، والأحداث السياسية والاجتماعية، والحب (گراناز موسوي، وشبنم آذر، وآيدا عميدي).
حاولنا أن يضم الملف نماذج جيدة لشعر المرأة الإيرانية ابتداء بفروغ وشاعرات من جيلي الثمانينيات والتسعينيات والشاعرات الشابات اللواتي يشغلن اليوم مكانة بارزة في الساحة الشعرية الإيرانية:
فروغ فرّخ زاد (1967ــ 1935)
كنت أموت منك
كنتُ أموت منك
وكنتَ أنتَ حياتي
كنتَ تسير معي
وتغنّي فيَّ
عندما كنتُ أجوب الشوارع
دونما هدف
كنتَ تسير معي
كنتَ تغنّي فيَّ
ومن بين أشجار الدردار
كنتَ تدعو العصافير العاشقة إلى صباح النافذة
حين كان الليل يتكرّر
حين كان الليل لا ينتهي
كنتَ أنت تدعو العصافير العاشقة إلى صباح النافذة
من بين أشجار الدردار
كنتَ تأتي بمصابيحك إلى زقاقنا
كنتَ تأتي بمصابيحك
حين كان الأطفال ينصرفون
وتنام أغصان الأكاسيا
وأبقى وحيدة في المرآة
كنتَ تأتي بمصابيحك
كنتَ تَهَب يديك
كنت تهَب عينيك
كنتَ تهَب ودَّك
كنتَ تهَب حياتَك
وحين أجوع
كنتَ سخيّاً مثل الضوء
كنتَ تقطف أزهار التوليب
وتغطَي جدائلي
حين كانت جدائلي ترتجف عارية
كنتَ تلصق خدّي
بارتباك ثديَيّ
حين لم يبق لي شيء لأقول
كنتَ تلصق خدَي
بارتباكِ ثديَيّ
وتصيخ السمعَ
إلى دمي الذي كان يسير متوجّعاً
وحبَي الذي كان باكياً يموت
كنت تستمع
ولا تراني.
■ ■ ■
فرشته ساري (1956)
النهاية
كان يكفيني للحياة
غطاء واحد
وللموت
قبضة من التراب.
أما الآن فيحضنني خيالك
ولا تكفي كلّ ثياب العالم
لعُريي.
وإن متُّ على هذه الحال
سأنتشر في العالم إلى درجة
لن يكفيني
كلّ التراب.
من كلّ السماء
كان يكفيني القمرُ الفضّي
وأحارُ كيف أنساني القمرَ
غبارُ شَعرِكَ الفضّي؟!
كان العالمُ واسعاً جداً
وأنا فراشة مندهشة
وياللعجب
لكم أجدُني اليوم بلا نهاية
في مضيق حبّك.
/ الوحدة /
الوحدة
امرأة في نهايات الليل
الوحدة
تمثال جنديّ مجهول
في ساحة فارغة
الوحدة
صوت لا وجه له
على مغناطيس الفضاء
الوحدة ذكرى ضائعة
بين الغرباء
الوحدة
كبش حزين
بقي من نسله قِرنانِ
على جدران الفنادق.
■ ■ ■
نسرين جافري (1950)
/ 1 /
آه
عندما يغني ذلك الطائر
سيسقط تماماً على صورتي
ثمّ تستطيع
أن ترمّم غروبَ جسدي
ببضعة أشعة من الينبوع
أن تفتح عينيك الحجريّتين
وتبكي قدرَ ما تشاء
جنب ما أبدعتُ.
/ 2 /
لففتُ الطريق
بالليل والكحول
بألف درج ملتهب
لأعبر المنعطف الذي يقع قربَ ذلك الحديث
لم أتذكّر بعد
ماذا أضعتُ
في تلك المدينة الفارغة من الظلال
كانت رائحة الرطوبة تفوح من صوتي
حين عدتَ
رائحةُ بئر تصبّ مياهُها في كوكب آخر
رطوبة يديكَ کانت سهلاً
حين جلستَ في خاطري بحفنة قمحٍ
الفرسانُ الذين يأخذون ضوءاً عالقاً
من غروب عظامهم
سوف يمرّون من زقاقٍ
كنتَ لفظتَ اسمَه ذات يومٍ
ثمّ غبتَ في جميع الأزمنة
كم كنتَ لا متناهياً!
والآن عازف فارغ من الأزمنة
يعزف فيَّ قلبَه.
■ ■ ■
نازنين نظام شهيدي (2005 ــ1955)
/ 1 /
إذن
كانت الريح أغنية الأرض المظلمة
تتردد في أذن الأرض الرملية
وتخطّ على التربة الصفراء
ليبقى ما حطّمَتْه
في الذاكرة
وكانت الريح
تلك اليد المظلمة التي
تخربش الغيم المشرق
كي لا يمطر
ويمحو
سطوره المشؤومة
وكانت الريح
تقتل المصباح خلف النافذة
بعشوائية
باحثةً عن الزقاق المدمّر.
/ 2 /
لا يحبّوننا
نحن شبابيك محطمة
ربما شقّ غامض في شبّاك مهجور
أو مرة ثانية… ذلك المصباح المطفأ
نشعّ في مرآة قديمة
وننظر
إلى شارع العصر الرمادي الذي لا نهاية له
دون أن يتجسد هواءٌ
ويشعرنا بالهوى.
لا يحبّوننا
نحن مرايا محطّمة.
■ ■ ■
گراناز موسوي (1974)
المطار
فتِّشوا حقيبتي
وما جدوى ذلك؟
هناك آهةٌ مختفية في جيبي لطالما سمِعتْ:
قفي مكانكِ!
اتركوني!
أنام أصلاً مع شتلة التوتِ البرّيّ ولا أخجل
لماذا تصوّبون دائماً نحو امرأة
تتخلى عن الجدار
وتُعلّق قلباً من فستانها بدبّوس صغير؟
لا شيء في حقيبتي
غير ضفائر لم تقترف أيّ ذنب
اتركوني!
حلمتُ أنّي أخذتُ هذا القلبَ من الله ولن أصل إلى الغد
حلمتُ أني عندما أرحل إلى هناك
يلتصق حذائي بيوم الجمعة
وهل كلّ أرض الله مصابة بسرطان الدم؟
تفاؤلاً آخذ هندباء برية وأطلقها نحو القمر:
عودي يا أيام الجمعة في الطفولة
عودي مع ذلك الصبيّ الذي
نبتت من يده طائرة ورقية
وعشقتُه أنا
بالأصابع العشرة التي كنت أعرفها
لماذا تصوّبون دائما نحو امرأة
تعلّق قلباً من فستانها بدبّوس صغير؟
هنا يتوقّف الطيرانُ دائماً
في مصائدِ أزقّةِ الحرب
أو في تنّورة مُشجّرة على حبل الغسيل
في كلّ الأحوال سوف تهرم الخفافيش.
على الأقل، أعيدوا إليَّ صورةَ طفولتي!
■ ■ ■
بهاره رضائي (1977)
/ مشاهد /
أسماك نادرة بيضاء
تسبح
هذه الأيام
على صدغيك
وهذا يقلقني
وكلّ أغراض ذهنكَ
واضحة
من هنا:
فلسفة هيغل
تشرئبّ من جبينك،
ينبغي أن أقصّ شعرك
تاريخ ويل ديورانت
والشروخ التي فتحها
بيننا
ينبغي أن أسجّل منه أشياء جديدة على الورق
لا!
لا أريد هذا الـ «أنتيك شوب» الكثيف الأسود
أين قارّتي الأفريقية
على جغرافيا رأسك؟
ومن أيّ «رأس» وصلتْ
معاركُنا القبليةُ
إلى المضيق؟
بتلك الذقن التي لم تحلقها منذ ثلاثة أيام
وبتلك المكيّفات الاستوائية
كنتُ أحبّ
صيفَ جسدك.
■ ■ ■
شبنم آذر (1977)
/ 1 /
لستُ حدّاداً
ولا نجّاراً
لا أستطيع أن أطرق على مسمار
ولا فأس لدي
أستطيع فقط أن أصنع حلماً
نافذةً مبللة بالمطر
باباً بلا قفل
سفينة بلا مرساة
لمحكومٍ عليه
بالسجن المؤبد.
/ 2 /
خُذ هذا المنديل
وامسحْ تجاعيد جبينك
ذات يوم
سنحفر قبراً للموت
ثمّ
نعيد كلّ الأشياء إلى أماكنها
كلّ الأشياء.
■ ■ ■
فرزانه قوامي (1968)
/ في الشاطئ /
اسم السماء أخذوه من الماء
واسم الشمس من نظارتي السوداء!
عرفت اليوم
أن عروقي سمّيتها باسمِك
وكُمّ قميصي القصير
تتمّة لمساءِ حبّ
في شواطئ «رامسَر» الحجرية
مزيجٌ من الشاي والموسيقى
وأغراض تتعلّق بالمقهى
أشعلِ الفوانيس
هناك حصان ميت في الشاطئ
والغربان عرفتْ
أن الحصان ليس حيواناً نبيلاً كما قيل
وعليها أن تلتهم عينيه
وتسلّم جلدَه البنّيّ
للشمس
ثمة امرأة واقفة على الشاطئ
والأسماك عرفت
أن المدّ بلغ جدائلها
أشعلِ الفوانيس
أهملِ البحر
وأهمل الحبّ في شواطئ فستاني الحجرية
أهملْ نظارتي السوداء
واطلبْ ما تشاء أمام عين البحر:
السمكة البيضاء
المياه المعدنية
وكأسا متموّجة…
■ ■ ■
ليلى گله داران (1976)
مخروطٌ بعباءة سوداء
أنا المخروط الأسود
صيغة من أفعال المضارع والماضي
ملتفةٌ في كرمشةِ القماش والسكوت
مصيرٌ مستساغ للأزقة وانتفاخِ البَطن
وراقصةٌ على النغمات المعتادة
قدَرُ البيوتِ ذاتِ الجدران العالية والأسيجةِ الملتفّة ببعضها
أجفّف قلبي في صينيةِ الطّرخون
وخلف تجاعيد عباءة النافذة السميكة
وحسبَ فترة الحيضِ
أخمّن هلال القمر حتى البدر.
■ ■ ■
منيرة بَروَرِش (1961)
/ 1 /
لن أولد
أبداً
لن أملأ صمتي بالسيتار
لن أكتب
الحوافزَ
والمرارات
ألبس حذائي فقط
وبدل المجيء
أرحل.
/ 2 /
أطفأت المصابيح
كما ابتسامتي
وذهبت
لأكتب
فوق الصخر
قصيدة
تقرأها أنت.
■ ■ ■
آيدا عميدي (1982)
/ 1 /
نومُك خفيف
تشوّشه شعرةٌ دقيقةٌ مني
أما أنا
فأستلّ جسدي ذرة ذرة من بين خلاياك الرطبة
ومن جسدكَ يصل صوتُ التراب
صوتُ انغراس جذور النباتات في روحك
غدوتُ سمكةً
أنفاسي تضيق في البرّ
ضعْ إبريقاً صغيراً في كلّ خلية منك.
/ 2 /
لا شيء لدي كي أكتب عنه
بحاري كلّها ضاعت في الرّيح
وقصائدي مليئة بكلمات مجنونة
تقطع شرايينها لك
بين حين وآخر
أنا محكوم عليّ
واضطرابُ العالم لا ينقذني
لا حلّ
إلا أن أخرج من نقشي المتجعد على الحجر
أمسكَ بعصاي
وألجأ إلى جيش الكلمات المهزوم.
الأخبار