صفحات الثقافة

عصر الفتن/ عناية جابر

يجتاز العالم العربي اليوم أحلك أيامه من اليمن الى ليبيا فمصر وسوريا والعراق ولبنان. وكأن المجازر المشرعة لم تعد تكفي دولنا مع حصتها من التشريد والجوع تأتي الطبيعة لكي تصب على الزيت نارا. فالمشرق كان على موعد مع عاصفة روسية ضربت عدة دول مرة واحدة. وفيما كانت العاصفة تعلن عن مجيئها بواسطة إعلام وتهويل رسمي كبير في لبنان حيث أتخذ التهويل طابعا مبالغاً جداً لعله كان مقصوداً بهدف التغطية على عاصفة سياسية فضائحية كانت تضرب صفوف الحكومة المستقيلة أصلاً.

استنفرت الدولة الإعلام لكي تعلن عن قدوم الشتاء العادي. مطر وثلوج على المرتفعات وانخفاض بدرجات الحرارة وريح وطرقات مقطوعة. فصل الشتاء يعني. استنفار يتمحور تقريباً حول الإعلان عن الشتاء. لا تدابير ملموسة معلنة ولا مراكز استقبال للنازحين الاشقاء السوريين ولا للفقراء اللبنانيين أو للسائقين الذين تفاجئهم سيول الأمطار الغزيرة التي لا تجد تصريفاً لها في بلد الستين مليون دولار من الديون التي صرفت على إعادة تاهيل البنية التحتية للبلد بعد الحرب.

نقلد ‘الأبيض’ في كل شيء إلا بالمحتوى. ترى حكوماتنا أن حكومات الغرب تستنفر اجهزتها قبيل قدوم العواصف فتقوم حكوماتنا الببغائية بتقليد الشكل عندها متجاهلة ما تقوم به الحكومات هناك من تدابير وتحضيرات في الأجهزة والمعدات والبشر والجمعيات تترافق مع البوق المدوّي. لكن حكوماتنا تكتفي بالإنذار فقط دون الباقي. فالتقليد يتوقف على الناقوس. وعندما يحصل ما يتجاوز العادي ‘لحق على تباكي’ من الجميع مسؤولين ومواطنين على السواء.

لا وقاية ولا علاج . لا بمواجهة الشتاء ولا بمواجهة الصيف. دولنا تصدر النفط والمحروقات للكون وتزورنا الدول الكبرى جميعها لتتصارع على مواردنا ومحروقاتنا ونحن لا نملك ثمن وقود مدفأة لغالبية العائلات العربية المحتاجة للتدفئة. نصدر الدفء للخارج، هذه هو اختصاصنا الرئيسي في تقسيم العمل الدولي. هذه مزايانا التفاضلية كما تقول العلوم الإقتصادية.

لم يتعلم حكامنا من أصول الحكم والتوقع والوقاية والبرمجة إلا الإعلان عن المصيبة. هم يقولون لنا ان انتبهوا فالشتاء القارس آتٍ ولا تنسوا ان تبلغونا بأسماء موتاكم في حال حصول الوفاة. وبالطبع لا ينسون ان يستبقوا الأخبار السيئة بعدد من الإحصاءات العلمية والمالية التي تشرح لنا عمق الأزمة الإقتصادية التي تعاني منها البلاد جراء .. جراء ماذا..؟ لا نعرف. جراء سوء الحظ ربما.

لم يعد المواطن العربي يعرف اي عاصفة عليه ان يواجه. فعدا عن العواصف الطبيعية يواجه اليوم عدداً من العواصف الكبيرة في المجال السياسي والأمني لا تقل أهمية وثقلاً عن الطبيعية. فلدينا حالياً عدة حروب أهلية على نار مستعرة وعدة حروب اهلية أخرى على نار متوسطة و مجموعة من الحروب التي تنتظر هنا وهناك نارها.

قامت الشعوب العربية بانتفاضات ثورية لكي تسقط استبدادها وحكومات الطغيان فيها، ولكي تبني نظامها الحر. وبعد نجاحها في غالبية الدول التي شهدت ربيعاً عربياً بإسقاط أنظمة الطغيان، حصل ما ليس بالحسبان وإذ بعاصفة هوجاء تهب على هذه الدول وتحمل ما يشبه الجنون إلى اهلها فبدأوا يتقاتلون فيما بينهم من جديد على الماء والكلأ. كل قبيلة تريد دولتها ونفطها وغازها وحدودها وحكومتها وطرقها وشمسها وقمرها.

أهل اليمن السعيد يتدارسون بسلام حتى الآن مشروع إقامة ست دويلات مستقلة بعــــد اليمنين السعيدين السابقين. السودان انقسم مؤقتا إلى دولتين سعيدتيـــــن والحبل على الجرار. في ليبيا قام هذا الاسبوع عدد من القبائل القاطنة في شرقي ليبـــــيا الغنــــية بالنفط بالسيطرة على موانىء تصدير النفط في المنطقة مطالبين بـ’نظام اتحادي يتضـــمن تقاسم السلطة بين أقاليم برقة في الشرق، وطرابلس في الغرب، وفزان في الجنوب، على غرار النظام السياسي الذي كان سائداً إبان الحكم الملكي، قبل تولي القذافي السلطة’.

في سوريا ملامح حديث عن اتفاق شراكة كونفدرالي سوف يبحث في جنيف-2 وذلك في محاولة لوضع حد للحرب الأهلية المشتعلة هناك. في لبنان حدث ولا حرج فالدول قد رسمتْ والحدود قد اقيمتْ ولا ينقصها إلا الإعلان الرسمي والنشيد والعلم. قامت الثورات لكي تقيم الدولة العصرية فلم تنجح بغير إقامة أطماع صغيرة لدول قزمية تتصارع على مناطق النفط والغاز كما كانوا يتصارعون منذ القدم على الماء والكلأ. كنا بطاغية فأنعم الله علينا بألف طاغية جديد.

ماذا جرى لنا لكي نحصد مثل هذه النتائج؟ بماذا اخطأنا حتى وصلنا إلى أسفل هذا الدرك؟ هل ممنوع علينا المطالبة بالتغيير؟ هل ممنوع علينا القيام أو المطالبة بالإصلاحات الضرورية؟ هل فتحنا صندوق باندورا دون ان ندري؟ هل كان من الضروري المرور بهذه الحالة التي يتفجر فيها كل شيء لكي يعاد بناؤه من جديد بعد فترة طويلة من الزمن؟ أم هل كان هناك طريق آخر أقصر وأسلم لم ننتبه له؟ هل كان علينا ان نبدأ حيث بدأنا؟ هل كان هدفنا صحيحاً طالما أنه قادنا إلى حالة أشبه بالجنون؟ هل يمكن القيام بثورات كبيرة من هذا العيار بدون مقدمات فكرية وفلسفية تسبقها؟ هل يمكن التسليم بثورات عفوية لا تقودها قيادة منظمة تعلن سلفاً الهدف وخارطة الطريق المطلوب اتباعها؟ كيف قبلنا بالسير مع هواة لا يعرفون سلفاً الى اين يذهبون؟

العواصف تشتد من حولنا وتتحــــول إلى أعاصير. الطبيعة تشارك البشر الجنون. لكن جنون الطبيعة طبيعي، قدري، وليس البشر بمسؤولين عنه. أما جنون البشر فلا يُسأل عنه أحد غيرهم. فنحن مسؤولون عما تقترفه أيادينا الآن. لقد انتقلنا من الثورة الى الفتنة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى