‘شبدس’… نصف شبيح ونصف مندس
د. محمود صالح
لا أحد يريد التعاطف مع أصحاب أنصاف المواقف، أو حتى يستمع لهم. ‘حدد موقفك!!’ طلب شرعي ينتظر دوما جوابا حاسما خاصة في ظروف باتت لا تحتمل التأجيل، بل أن تأجيل اتخاذ المواقف وفي ظروف استثنائية يعتبره الكثيرون تبديدا لوقت ضائع، وتمديدا لعملية موت عهد بائد ومريض أو لإطالة مخاض ولادة فجر واعد وجديد.
ما رأيك بما يحدث الآن في سوريا؟ السؤال التمهيدي والتقليدي الذي يطرحه عليك عادة صديق قديم أو أحد المعارف الجدد، سؤال تسمعه أيضا عندما تلتقي في مناسبة ما مع من يعرف أنك تنتمي بشكل أو بآخر إلى هذا البلد إما برابط الجنسية الوطنية وإما برابط الهوية القومية.
وراء هذا السؤال الاستكشافي يقف خيار تحديد الموقف، هل انت مع السلطة؟ أم أنت مع المعارضة؟ أو وعلى سبيل الدعابة هل أنت شبيح موالي؟ ام مندس معارض؟
لا احد حتما يريد أن يكون شبيحا أو ان يكون مندسا، لكن وفي الحالة السورية تضيق الخيارات أمامك عندما تريد أن تحسم امرك وتخرج من حالة التردد ومن شراك موقف اللاموقف وتبتعد عن أنصاف الحلول وانصاف الإجابات.
لا خيار لك إما أن توصف بالشبيح من قبل المعارضة في حال خالفتهم الرأي، في أمر مصيري يخص الوطن لا النظام، وحذرت مثلا من حقيقة تكاثر الأجندات المحيطة بسوريا، أو إذا عبرت عن موقف من تصرفات الجماعات المسلحة التي باتت تقتل وتدمر وتغتال وتحدث الفوضى، وتأثر سلبيا على أهداف الثورة السورية بمعناها الحقيقي وأبعادها ضمن امتدادات الربيع العربي، وتخرب على الناس الذين خرجوا إلى الشوارع يتحدون النظام بسلاح ‘السلمية’ مطالبين بالحرية والعدالة وبحياة كريمة.
أنت أيضا شبيح وعميل للنظام السوري إذا استغربت هذا الإجماع العربي والغربي غير العادي على قلب نظام الحكم في سوريا بالقوة وبالحصار وبالمقاطعة وبمحاولات التدويل المستمرة، وإذا تسألت عن مفارقة دعم الديمقراطية والحرية في سوريا من قبل دكتاتوريات الخليج العربي والسعودي خاصة، أو إذا استهجنت تضخم الفقاعة القطرية في لعب دور مصدر ثورات الحرية إلى أجزاء معينة من الوطن العربي…وأنت شبيح لا محالة إذا لم تعجبك البدائل التي تطرحها المعارضة السورية خاصة عند التخوف من خطر سكاكين الطائفية داخليا أو خطر خناجر الثأر من سلوك النظام خارجيا، في التعامل مع إيران ولبنان وفلسطين.
خاصة بعد أن ذهبت بعض أقطاب المعارضة السورية بعيدا في تطرف طرح مطالبها، مما جعل النظام يستميت في الدفاع عن النفس، مستخدما ما هو مشروع وما هو غير مشروع من أجل البقاء، دون ترك أي مجال للمناورة على فتح مخرج له. إضافة إلى تقصير هذه المعارضة في الوصول إلى قطاعات واسعة من الشعب السوري، وافتقارها لشخصية رمزية قوية يمكن أن تلهم الشعب وتقنعه بالتخلي عن النظام.
أنت لا تريد أن تكون شبيحا وتلتصق بك تهمة الدفاع عن سلطة حاكمة ولكن لا تريد أيضا أن تقف مكتوفا أمام انهيار وطن. وفي المقابل عندما تتحدث بموضوعية أمام الموالين للسلطة، تحوز مباشرة على لقب مندس، لأنك تنتقد ممارسة النظام الحالية في تعامله مع الأزمة منذ البداية واستخفافه بمطالب الشعب وبعدم تقديره للموقف الإقليمي والعربي في التعامل مع الملف السوري ومستجداته.
أنت مندس ومتآمر على الوطن لأنك تدين استخدام العنف والقتل والاعتقال والتنكيل، وتؤيد من يطالب بمساحة حرية وديمقراطية لا تزيد عما حصلت عليه معظم شعوب العالم.
أو عندما كنت تنبه من تراكمات التخلف الإداري وترهل المؤسسات وعجز القوانين أمام زيادة حاجة المواطنين الخدمية والوظيفية، تخلف تجاوزته معظم بلدان المنطقة، بينما بقي حذر الطبيب يغلب على حماسة الشاب في شخصية الرئيس السوري عندما كان الأمر يتطلب إرادة سياسية قوية وحازمة للتغير واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية بعيدا عن تأثير الدوائر الأمنية، إلى أن بقيت فترة الركود من أجل توطيد النظام مستمرة أورثها الرئيس الأب إلى الرئيس الإبن، الذي لم يحسن قراءة المتغيرات المحيطة به وببلده بعد عهد أبيه.
ولأنك لا تريد أن تكون مندسا أو شبيحا تتمنى أن تصبح ‘شبدسا’ ولا يتهمك أحد لا من جهة السلطة ولا من جهة المعارضة، وفي نفس الوقت تصبح من أصحاب المواقف الكاملة والحاسمة، فأنت شبيح بمفهوم حبك للوطن ومندس في مفهوم العداء للأجندات الخارجية المحيطة به، وأنت مؤمن بأن النظام الحالي في سوريا يجب أن يرحل بنفسه وإما مجبرا، أمام ضغط الكتلة الشعبية وحسن تنظيمها لمقارعة النظام.
وأنت مؤمن أيضا أن النظام السوري يجب أن يرحل بقناعة السوريين وسواعدهم وليس بضغط خارجي وحرب وعنف مثل السيناريو الليبي أوبتجويع الشعب وبتضييق الحصار أكثرعلى البلد، مثل السيناريو العراقي.
الآن الكل يعرف أن سورية بحاجة إلى تغيير أسرع من برامج الاصلاحات المترددة والكسيحة التي كانت حكومات النظام تطرحها او بالأحرى تلوك الحديث عن تبنيها، والكل يدرك أنه حان الوقت لأن تمتلك سوريا مؤسسات حديثة وعصرية تتخطى المؤسسات الهرمة والمترهلة الحالية التي تعطل أكثر مما تخدم أهداف التقدم والتطور والتحرر المنشودة.
والجميع على قناعة أن سوريا لم تعد تحتمل فسادا مستشريا بهذا الشكل، وأن الإصلاح السياسي أساس كل إصلاح آخر وهو حاجة وليس ترفا للمواطن وللوطن على حد سواء، وأن القمع والذل والإهانة والقتل امور لا تعطي استقرارا وأمنا لأي نظام، الكل يعرف ويدرك الآن وبمن فيهم الرئيس نفسه أن الجسد السوري لم يعد يحتمل المزيد من المسكنات ولا يمكن للشعب السوري البقاء في غرف انتظار إرادة تغيير سياسية بطيئة وحذرة تجاوزت فترة الملل إلى ما يشبه مرحلة الشلل.
الشعب في سوريا كسر حاجز الخوف من النظام وأصبح سائق التاكسي يسألك بدون تحفظ وسط شوارع دمشق هل انت شبيح؟ أم أنت مندس؟ لكن التخوف من عواقب رحيل النظام قسريا وعسكريا شكل لدى الشعب حواجز خوف أخرى أكثر رهبة من الحاجز السابق، لذلك عليك أن تجيب سائق التاكسي بأنك ‘شبدس’ لا شبيح ولا مندس.
‘ كاتب وصحافي فسطيني يقيم في استوكهولم
القدس العربي