شرطيّ مرور
نديم جرجوره
يُمكن القول ان عدم اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية الجديدة عسكرياً، مرتبطٌ بالعجز عن العثور على شرطيّ مرور. المقولة الساخرة التي أطلقها أحد الأصدقاء، كفيلةٌ باختزال الحكاية، بعيداً عن المناخ السياسي العام. مقولة ساخرة بمرارة اللحظة، وقسوة الواقع، وبشاعة الاصطفافات الداخلية الحاقدة. مقولة مفادها أن من «صنع» لحظة انفجار الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975، هو شرطي مرور «كُلِّف» بتحويل سير بوسطة تقلّ فلسطينيين مدنيين عزّلا إلى داخل عين الرمانة، أمام مسلّحين كتائبيين. هذا ما حصل. شرطيّ المرور اختفى. بوسطة عين الرمانة رمزٌ لإحدى أسوأ ملامح الجريمة المتفشّية على مدى خمسة عشر عاماً.
لكن، ألهذا السبب وحده، لا تزال الحرب الراهنة، المندلعة بشكل آخر منذ النهاية المزعومة للحرب الأولى مطلع التسعينيات الفائتة، والمتفجّرة بعنف مبطّن منذ اغتيال رفيق الحريري قبل ثمانية أعوام، عصيّة على الاندلاع؟ ألهذا السبب وحده، لا تزال الحرب الراهنة مبطّنة، تنقضّ على ضحية مدنية هنا، أو تغتال ضحية أمنية هناك، أو تعتدي على مؤسّسة عسكرية هنالك، أو تخنق جماعات باقتصاد قاتل، وبعمران عنصريّ ينبذ فقراء البلد، وبإعلام مرتهن لأمراء مال وطوائف ومذاهب، وبجامعات لا تقلّ طائفية ومذهبية عما يحدث في البلد يومياً؟ ألهذا السبب وحده، اعتادت الحرب الراهنة أن تنفجر قليلاً هنا، أو أكثر بقليل هناك، كي تقول للجميع ان غليانها المكبوت معرّض للتفلّت من كل قيد في أي لحظة؟ بل في كل لحظة؟ ألهذا السبب وحده، يبحث كثيرون عن شرطي مرور يتكفّل بـ«صنع» اللحظة المطلوبة، في لحظة مطلوبة من داخل تتفاقم أحواله البائسة، ومن خارج يطيب له معاينة العفن والتآكل الذاتيّ، رافضاً لجم الخراب؟
أعرف أن كثيرين يستهزئون بمقولة ساخرة كهذه. أعرف أن كثيرين يقولون تحاليل سياسية وثقافية واجتماعية أخرى، لتبيان أن العجز عن إشعال فتيل حرب أهلية لبنانية جديدة كامنٌ في مسائل متعلّقة بحسابات داخلية وإقليمية ودولية أكبر من شرطي مرور، وأخطر من مجرّد بوسطة مدنيين. لكن ما هو أكبر وأخطر موجود داخل كل فرد من الغالبية الساحقة من اللبنانيين، المتعطّشة إلى مزيد من الدم والجثث والحرائق والتمزّقات. وإلاّ، ماذا تعني ممارسة العنف، كلّما تسنّى لهؤلاء ممارسته؟ لماذا هذا التفنّن الفظيع في ممارسة كل أنواع العنف اليومي، في شتّى المواقف والحالات؟ وإذا كان العنف حاضراً بالحدّة هذه، ما الذي يمنع انفجاره حرباً أهلية، لولا غياب شرطيّ المرور؟ أليست تفاصيل حرب كهذه جاهزة؟ أليس الحقد المذهبي، والرغبة في إشعال النار، ورفض الآخر، والخطابات، والإعلام، وكل شيء آخر، تُساهِمَ كلّها فعليّاً في تحضير أرضية خصبة لحرب كهذه؟
قد يكون ما سبق مجرّد هلوساتِ مُقيمٍ في مدينة فَقَدت كل مبرِّر أخلاقي أو إنساني لوجودها. لكنه واقع يومي معيش بقلق ألاّ يظهر شرطيّ المرور في نهاية المطاف.
السفير