صفحات الثقافة

شعريّة الحقيقة القاتلة/ د. شهلا العجيلي

 

 

لا يمكن أن نجزم بأن الخريف فصل الشعراء، لكنّه فصل يمتلك طاقة شعريّة عالية، منحتها عوامل عديدة دينيّة، وطبيعيّة، وثقافيّة في عمليّة معقّدة. هكذا نجده في لوحة الرسّام الفرنسيّ نيكولا بوسّان، التي حملت عنوان الخريف، كان قد رسمها بين عامي 1660 و1664، ونجده في لوحة الهولنديّ فان غوخ، ( الخريف في فرنسا)، التي رسمها مع غوغان في عام 1888.

قد تعود الشعريّة التي تحملها مفردة الخريف مجرّدة من أيّ سياق لغويّ، إلى السياق الثقافيّ، إذ رسخ في معظم الثقافات بأنّه فصل السقوط الزوالي، ولو أنّه ترسّخ بوصفه فصل الاستعداد للإنبات، لتغيّرت الصورة القوليّة، والبصريّة، ولتغيّر التقدير اللونيّ أيضاً. ومهما قيل في الخريف، يبقى بالنسبة لي، وربّما لكثير من أبناء جيلي، نصّ سليمان العيسى الذي درسناه في الصفّ الأوّل الابتدائي الأكثر شعريّة، إذ يضاف إلى شعريّة اللغة فيه، شعريّة الطفولة ، ومكابدة الدرس، والتاريخ الذي يجمّل نفسه: ورقات تطفر في الدرب / والغيمة شقراء الهدب/ والريح أناشيد/ والنهر تجاعيد/ يا غيمة يا أمّ المطر/ الأرض اشتاقت فانهمري… أقول ذلك كلّه مع أنّ إليوت سحرنا بقسوة نيسان في (الأرض اليباب)، قسوة الربيع الذي يرغم الأرض على الولادة بما تحمله من آلام، تلك القسوة التي تنتج الجمال!

لا أقصد من مقارنة بين الفصلين أيّ إشارة إلى ربيع عربي أو خريف عربيّ، مثلما قد يظن االمتلقي الذي يعيش تحت سطوة السياق، أبدا، فأنا لا أخضع لهيمنة السياقات، بل أحكي عن فصل من مدارات الطبيعة التي حكى عنها بطليموس، والبتّاني، والإدريسي، عن ظاهرة طبيعيّة محمّلة بشعريّة خاصّة هي شعريّة الحقيقة العلميّة التي سنكسر من أجلها بلورات المنجّمين: فـ «العالم الحقيقيّ عندما يفهم فهماً صحيحاً بالطريقة العلميّة، عالم له جماله العميق ويظلّ دائماً مثيراً للاهتمام، وهو يستحقّ أن نبذل بعض الجهد الجادّ لفهمه من غير أن تلهينا أعاجيب زائفة، وحتّى يتّضح لنا ذلك لن نكون في حاجة لأن ننظر لما هو أبعد من الموجودات بين أيدينا…». لكنّ شعريّة الحقيقة العلميّة، وهي الحقيقة المحميّة من الأهواء، لا تتكشّف إلاّ بعد أن تخرج من حقل ولادتها الدلاليّ، وتتخلّص من سطوة سياقاته، وذلك يحتاج إلى ما أسمّيه المسافة الجماليّة، مسافة مكانيّة، وزمانيّة، واستعماليّة أيضاً، مثلها مثل الحروب، والشخصيّات، والحوادث التاريخيّة: تضمّ طفلة صغيرة قبضتها، وتقول هذا قلبي! لقد حوّلت الطفلة الحقيقة العلميّة إلى شعر!

لطالما ضيّعت سطوةُ السياقات الحقيقةَ العلميّة، سواء كان ذلك بسبب أهداف شريرة للمعرفة أو بسبب أهداف خيّرة، من مثل أنّ التعليم، وتقديم القدوة جعل الأسلاف دائماً مبجّلين وعلى حقّ، بغضّ النظر عن الحقيقة! مع ذلك سنجد مقابل الإخفاء والتشويه، عشّاقاً للحقيقة، يحمونها حمايتهم للأفراد، كما فعل في القرن السابع عشر، الإنكليزيّ جون سلدن صاحب كتاب (آلهة السوريين)، الذي أخلص للعربيّة وأهدى مخطوطات نفيسة جمعها بماله، لطلبة من أجل خدمة العلم! لا بدّ من التذكير بأنّه من أجل الحقيقة العلميّة أو أثناء الوصول إليها سفكت الكثير من الدماء، وإنّ العماء عن رؤية هذه الدماء هو نتاج ملازم لسلسلة من العمليّات الحيويّة بما فيها عمليّة الانتخاب الطبيعيّ!

لعلّ ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية التي قام بها روبرت الكيتوني في القرن الثاني عشر الميلاديّ، كانت بسبب الدعوة إلى الكشف عن هرطقة الإسلام! لقد ظلت تلك الترجمة برغم أخطاء اعترتها، الوحيدة التي عرف بها القرآن الكريم في أوروبا في العصور الوسطى إلى القرن السابع عشر.

ولعل دراسة كلّ من اللغة العربية، والكتب الشرقية والاهتمام بها، كانت أيضا لسبب سياسيّ هو تحويل الكنائس الشرقية (الأورثوذكسية، والنسطورية، والروم الملكية الكاثوليكية، والمارونية، واليعقوبية، والقبطية الوحدانية) إلى الكاثوليكيّة. ومن أجل تعزيز العقيدة الكاثوليكيّة بين مسيحيي الشرق أسس الكاردينال فرديناندو دي ميدتشي في روما، بتشجيع من البابا غريغوريوس الثالث عشر في عام 1584، مطبعة تستخدم الحروف العربيّة بطريقة متقدّمة جدّا، صمّمها المتخصص الكبير في صناعة الطباعة، الفرنسي روبرت غرانجون، فأخرجت الأناجيل الأربعة باللغة العربية، وأخرجت القانون في الطب لابن سينا، وترجمة عربية لكتاب إقليدس، وجزءا من رسالة الإدريسي معروفا باسم (جغرافية النوبة).

خلّفت الحروب الطويلة بين الممالك المسيحية والمسلمة في الأندلس ميراثاً من الكراهية، أنتج سياسة إبادة لمظاهر الثقافة الإسلاميّة وأوّلها اللغة العربيّة، ففي عام 1499 حرقت خمسة آلاف مخطوطة عربية في الميدان العام في غرناطة بأوامر من خيمينيث دي ثيسنيروس كبير أساقفة طليطلة، لكنّ الكتاب الوحيد الذي أنقذه المطران من الحرق هو نسخة الجزء الأول من كتاب (القانون في الطب) لابن سينا، وقيل إنّه نسخة من الكتاب الأصلي، ومع تلك الشراسة في الحرق، طبع في غرناطة في عام 1505 عملان كتبهما (بيدرو دي ألكالا) بطلب من كبير أساقفة غرناطة، الأول: الألفاظ العربيّة في أدب قشتالة، والثاني قاموس في اللغتين القشتاليّة والعربيّة.

ستظهر الحقيقة ولو بعد حين، وربّما تنتقم، فتجرف بشكل عنيف الذين أخفوها، يحدث ذلك في الحياة الأدبيّة، والثقافيّة، والسياسيّة، فهي تخضع أيضا لهذا الانتخاب الطبيعيّ. هنا أذكّر الذرائعيين، الربيعيين والخريفيين، والنقّاد وأعضاء لجان التحكيم العلميّة والثقافيّة بمسؤوليّاتهم… فحتّى الفكرة الاستعماريّة تقوّض نفسها حين تغيّب الحقيقة، لقد فرض الاستعمار الفرنسيّ لغته بشراسة، فقرأ المستعمَرون والضحايا روسّو، وحرّروا أنفسهم!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى