صفحات المستقبل

“شفط” القُبلة التركية/ روجيه عوطة

 

 

لم يمنع “المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع” في تركيا، مشهداً من مشاهد التقبيل بين بطلي مسلسل “المال القذر والحب”، المعروض في قناة ATV، بلا أن ينطلق من توصيف محدد له. أحد مستشاري المجلس صرّح بأن القبلة ليست “بسيطة”، بل هي “شفط للشفاه”، وهذا ما يملأها بالشهوة والإثارة، اللتين تفسدان “أخلاق” المتفرجين عليها، لا سيما الشباب منهم.

فمن الضروري حجبها، وانتزاع مثيلاتها من الحلقات التالية، خصوصاً أن شكاوى “شعبية” كثيرة، أرسلت إلى المجلس، طالبةً منه تشديد الرقابة على المشاهد الجنسية، التي قد تمر على الشاشات، وأمام عيون المواطنين، فتدفعهم إلى محاكاتها، فضلاً عن توجيهها إساءة إلى عاداتهم وتقاليدهم المجتمعية. من هنا، لم يتردد المجلس في وصف القبلة بأنها وسيلة “شفط”، وغايتها “إفساد” سلوكيات الإجتماع التركي.

غير أن المُشاهد بمقدوره معاينة القبلة المحذوفة، والتأكد من كونها ليست “شافطة”، أو “شهوانية”، إذ بالكاد تستمر لثوانٍ قليلة قبل أن تنتهي، من دون أن تشتدّ، مشرعةً المشهد على فعل عاطفي آخر (يمكن مشاهدة مشاهد المسلسل التقبيلية عبر هذا الرابط). لكن المجلس، وقبله الحكومة التركية، بالغ في وصفه، كما لو أنه يتقصد أموراً ثلاثة على الأقل. أولاً، اعتبار كل قبلة “شفطة مثيرة”. ثانياً، حذفها بوصفها تحضّر لفعل آخر. وثالثاً، النظر إليها كمفتاح لإنفلات أخلاقي محتمل على أساس الربط بين الجسد والتقليد، وهو، في الحالة هذه، إسلامي. فالقبلة، بحسب السلطة، توطئة لممارسة جنسية، قد تُنقل علناً، كما أنها، بالتوازي مع ذلك، إتصال حسي غير مضبوط، ينتج عنه تبادل غير مقونن.

وفي وصفه القبلة كـ”شفط شفاه”، يستخدم المجلس استراتيجية المغالاة، بهدف الإستمرار في حذف أي مشهد تقبيلي، مستعملاً الوصف نفسه لتبرير رقابته. هذا، عدا عن إسناد استراتيجيته بحجة “الشكوى الشعبية”، كما لو أن الأتراك يطالبونه بالتدخل بين شفاههم، وتحديد المسافة التقبيلية بينها، كي لا تتعدى “البساطة” إلى السحب. ذاك، أن “الشفط”، مثلما جاء على لسان مستشار المجلس، يبدو كأنه تمهيد لالتهام، أو ابتلاع، يقترفه ممثل، أو شخص، بحق آخر. وهو، في هذه الناحية، يشبه الجريمة. أو يتفق الإثنان على ممارسته، وهو في هذه الجهة، تعاقد شفاهي، لا يمكن للسلطة التحكم به، أو بأسبابه الخفية.

فمن المعلوم أن القبلة، أكانت “شافطة” أم غيرها، تثبيت لإنفعال يمر بين شخصين، لا تقدر اللغة على التعبير عنه، بسبب قوته أو سرعته، لذا يجري تأكيده جسمانياً، أو شفاهياً على وجه الدقة. وعندما يصوَّر التقبيل، يثبت مشهده، ويتحول محركه من الإنفعال إلى التفاعل. مع العلم، أن الإخراج التجاري قد أطاح بهذه الاستحالة، ليستبدل الإنفعال بالإثارة، ويضاعف منها، جاذباً عيون المُشاهدين. ولا حاجة للقول، في هذا السياق، أن المجلس الأعلى لا يرتكز على النقد السينمائي لحذف المشهد التقبيلي طبعاً، بل يواصل سياسته الرسمية، التي تسعى إلى فرض الشريعة على المجتمع التركي، ومحاولة أسلمته. فكبت القبلة مشهدياً هو، في المطاف الأخير، منع لأي إتصال مواطني، ولجم لأي اجتماع على أساس غير ديني.

يبقى أن حذف المجلس، للتقبيل في المسلسلات، وقبلها في محطات المترو والباصات العامة والشوارع، هو كبح لحركة جسمانية، تفيد السؤال أيضاً. فالقبلة، على ما يذكر الباحث الأميركي شيريل كريشنبوم، كانت، في الماضي، تحدث بين شخصين، الأول يسأل الثاني إن كان قد شرب الكحول أم لا. تالياً، القبلة “سؤال عن سائل” حاضر أم غائب في جسم الآخر، وهذا السائل تغير مع الوقت، ليصبح الإنفعال المستفهم عنه بين حبيبين. في النتيجة، حين تحذف الحكومة التركية القبلة من المشاهد التلفزيونية والواقعية على حد سواء، فإنها تبغي بذلك القضاء على فعل يؤكد إتصالاً تساؤلياً وسيولياً بين شخصين منفعلين، يجمعهما اتصال مفاجئ، غير موقوت على ساعة السلطة وأخلاقها التجميدية.

… الحرية للقبلات للتركية، والشافطة منها تحديداً!

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى