صفحات العالم

شماعة الفشل


عبدالله السويجي

في عام ،2008 أي قبل انتشار حركة الاحتجاجات و”الثورات” العربية بثلاثة أعوام، أصدر صندوق دعم السلام، ومقره في واشنطن، بالتعاون مع مجلة السياسة الخارجية الأمريكية، تقرير مؤشر الدول الفاشلة، فجاءت الصومال في المقدمة، ثم السودان، والعراق، وسوريا، ولبنان وليبيا، وجاءت مصر في المرتبة الأربعين .

والدولة الفاشلة هي تلك الدولة التي لا تستطيع القيام بالوظائف الأساسية المنوطة بها مثل توفير الأمن، وتقديم الخدمات العامة، وإدارة آليات السوق، وإدارة التنوع الاجتماعي . وتشرح المجلة المقاييس المعتمدة للدول الفاشلة ومنها عجزها عن تأمين الأمن والغذاء لسكانها وعدم قدرتها على استغلال التنوع السكاني، إضافة إلى فشلها في إدارة سياسات اجتماعية واقتصادية، وتزداد خطورة هذه الدول مع ازدياد حدة الأزمات، لأن الدولة الفاشلة غير مهيأة لمواجهة المستجدات والمخاطر الداخلية والخارجية، تلك الأزمات التي تبرز عوامل “الفشل” الكامنة في الدولة، وتزيد من احتمالات تحول هذه الدولة إلى تهديد للسلام والاستقرار الدوليين . وجاء في الشرح أيضا أن مصطلح الدول الفاشلة قد استخدم للمرة الأولى في عهد الرئيس بيل كلينتون، ونعت به الدول التي فشلت في القيام بوظائفها الأساسية، ما جعلها تشكل خطرا على الأمن والسلام العالميين، مثل أفغانستان في عهد طالبان، ومثل الصومال حالياً، حيث أصبحت القرصنة البحرية تنتشر على سواحلها، ولكن التقرير لم يستند إلى الرؤية الرسمية الأمريكية نفسها في تحديد الدول الفاشلة، وكانت نظرة الخبراء المستقلين الذي أعدوا التقرير أقرب إلى نظرة المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي أصدر كتابه “الدول الفاشلة”، ليؤكد من خلاله أن الولايات المتحدة الأمريكية ينطبق عليها تعريف الدولة الفاشلة . وبحسب التقرير فإن الدولة “الفاشلة” هي الدولة التي لا يمكنها السيطرة على أراضيها، وعادة ما تلجأ إلى القوة، وتشهد معدلات فساد وجريمة مرتفعة .

وبما أن التقرير صدر عن مؤسسة أمريكية فإن البعض شكك في صدقه حينها، واعتبره في إطار الحملة المضللة على الدول العربية ودول العالم الثالث لإبقائها تحت سيطرتها، والبعض الآخر حمّلها، أي الولايات المتحدة الأمريكية، مسؤولية فشل الكثير من الدول، مثل أفغانستان والعراق حيث قامت أمريكا بغزوهما، وكذلك ليبيا التي كانت ترزح تحت العقوبات الأمريكية والأوروبية إضافة إلى معاناتها الطويلة من حصار طويل، أما لبنان الذي احتل المرتبة 18 في قائمة الدول الفاشلة، فالبعض يعده ضحية السياسات الصهيونية المدعومة من أمريكا، حيث تعرض لأكثر من حرب مدمرة وتدخلات خارجية تركته منهكا ومقسماً، ناهيك عن تجذّر الطائفية في نسيجه السكاني والحزبي والنقابي .

وفي الواقع فإن معايير الفشل تضمنت عدم التعاون مع المجتمع الدولي، وهنا يجب أن تتربع دولة الكيان الصهيوني على قمة قائمة الدول الفاشلة، ولكن معظم التقارير الصادرة عن مؤسسات أمريكية تكون مسيّسة، وهذا لا يعني أن أصحاب القرار في الدول التي صُنّفت على أنها “فاشلة” قد وقع عليهم ظلم كبير، بل إنهم مارسوا الظلم في حقهم وحق شعوبهم وخيرات بلادهم، والقائمة الصادرة والمتضمنة للدول العربية، هي دول فاشلة فعلاً بسبب تفشّي الفساد والمحسوبية والطائفية والأنظمة الشمولية، وإذا كانت هذه الدول فاشلة قبل “الثورات” فإنها بعد “الثورات” ازدادت فشلاً . ونظرة سريعة على ما يحدث في العراق من فساد واحتكار وطائفية وصراع على المصالح واستباحة المال العام، وما يحدث في ليبيا من فساد واقتتال وانعدام الأمن، وما يحدث في سوريا من قتل ونهب وفساد في طرفي الصراع، وما يعيشه لبنان من تراجع في الخدمات والحفاظ على الأنظمة البالية والفساد والصراعات وازدهار المال السياسي والبطالة، وما يعيشه السودان من حرب أهلية خفية، وما يعانيه اليمن من انقسام خطر، وكذلك الأمر في المغرب العربي، كلها مؤشرات على أن هذه الدول العربية تسير إلى حالة أكثر فشلاً من ذي قبل، وبالتالي، فإن الدول التي ستدخل الدائرة الحمراء ستتضاعف .

إن السؤال الأهم هو الذي أجاب عنه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه “الدولة الفاشلة”: هل أمريكا دولة فاشلة؟ وفي الواقع يحدد تشومسكي في صفحات مختلفة من كتابه شروط الدول الفاشلة وعلاماتها، مثل عدم القدرة على حماية مواطنيها، وغياب الديمقراطية فيها، وتهديد الدولة للأمن الدولي، ليثبت أن تلك العلامات تتوافر في الولايات المتحدة، ويسعى في أكثر من فصل في كتابه إلى المقارنة بين سياسات الحكومة الأمريكية وسياسات الدول والجماعات التي تعاديها أمريكا، مثل العراق في عهد صدام حسين وإيران، وصربيا في عهد سلوبودان ميلوسوفيتش، وحركة حماس، لكي يثبت أن أمريكا تمارس السياسات نفسها التي تهاجم تلك الدول والجماعات بسبب ممارساتها، بل ويسعى تشومسكي إلى البرهنة على أن أمريكا تمثل خطرا على الأمن الدولي والسلام العالمي أكثر من تلك الدول، ويرى أن أمريكا بسياساتها الحالية تصنع حرب آرمغدون “حرب نهاية العالم” بيديها، بسبب سياساتها الانفرادية التي تسعى إلى تحقيق الأمن المطلق لأمريكا على حساب أمن دول أخرى عدة، ورأى أن ذلك سيدفع تلك الدول إلى حماية نفسها من أمريكا من خلال زيادة التسلح والسعي لامتلاك أسلحة الدمار، مما سيقود العالم تدريجيا إلى مواجهة نووية بشكل مقصود أو عن طريق الخطأ .

وقد نؤيد تشومسكي في ما ذهب إليه من أن التدخل الأمريكي في سياسات الدول بهدف تطويعها لتمشي في ركابها تسبب في خلق نزاعات داخلية وخارجية، وبالتالي تسبب في زيادة عدم الاستقرار الدولي، إلا أن هذا لا يعفي تلك الدول من مسؤولياتها التاريخية مطلقاً، وتفرّد قادتها بالسلطة على مدى عقود تسبب في خلق دول فاشلة أيضاً، كما لا ينفي قولنا هذا أن الولايات المتحدة تستغل منذ عقود مؤسسات البحث العلمي واستطلاعات الرأي ووسائل الإعلام والمفكرين، لنشر أفكار وانطباعات تسهم في الترويج لسياساتها الخارجية تمهيداً للقيام بخطوات على الأرض، كما حدث حين قام فرانسيس فوكوياما بوضع كتاب “نهاية التاريخ”، وذلك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، أو حين قام صموئيل هنتنغتون بإصدار كتابه “صراع الحضارات”، الذي نرى بعض آثاره الآن في الصراع الديني والطائفي والعرقي في أكثر من مكان في العالم .

إن إلقاء مسؤولية الفشل الذي تعانيه معظم الدول العربية على “شماعة” أمريكا، يشبه تحميل الاستعمار الذي انتهى منذ خمسين أو ستين عاما المسؤولية عن عدم وجود مدارس في القرى العربية، ولهذا، فإن الخروج من الفشل يكمن في الاعتراف به، تماماً مثلما يجب على المريض الاعتراف بمرضه العضوي أو النفسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وبعدها يبدأ العلاج، لكن بعض المسؤولين في الدول الفاشلة، يعتقد أنه يعيش في أكثر الدول تحضراً وازدهاراً، وهو فاشل في تأمين الكهرباء والمدارس، وفاشل في وضع نظام لحركة المرور، أو في تأمين خدمات الرعاية الصحية للمرضى وحياة كريمة للمسنين والمعاقين، وفاشل في السيطرة على منافذ البلاد ومنع التهريب، وفاشل في تحقيق السلم الأهلي بين أطياف المجتمع، ويمكن ذكر كلمة فشل إلى جانب كل مرفق من مرافق الحياة والخدمات، إلى درجة تشعر فيها أن عملية شطب كاملة يجب أن تحدث لكل ما هو قائم واستبدال نظام جديد به .

الدول الفاشلة فشلت في أن تكون دول قانون، وفي غياب العدالة تتحول المجتمعات إلى غابات يأكل القوي والمسنود فيها الضعيف، والكارثة أن الفشل تراكم إلى درجة يصعب فيها حله، وهذا ما يشجع الناس على الهجرة، وكأن الحل الوحيد الذي بات أمام الشعب هو ترك البلاد لمفسديها، وهي آفة الآفات .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى