شهداء.. على ألا ننسى أنهم ضحايا أيضاً
عمر قدور
“إلى س؛ امتناناً لأنها لفتت انتباهي إلى هذا”
أضحى وصف ضحايا الانتفاضات العربية بالشهداء شائعاً، ومن المؤكد أن هذا الوصف يروم إعطاء قيمة أخلاقية عالية للذين قتلوا على أيدي أزلام الأنظمة أو أجهزتها الأمنية. لذلك قد ينأى البعض عن إطلاق وصف “الضحايا” لأنه قد يقلل ظاهراً من شجاعة أولئك الذين تحدوا أعتى الظروف، فضلاً عن أن وصف “الضحية” لم يرتبط في الثقافة العربية سوى بالضعف، وغالباً بمَن قُتل دون الدفاع عن قضية ما. ولا شك في أن الإرث الديني لكلمة “الشهادة” يمنح لهذه الكلمة قداسة كبيرة، مع أن الجذر الديني لا يطفو على السطح بالضرورة، وربما يأخذ منحى ثقافياً عاماً لا يربط الكلمة مباشرةً بالمفهوم الديني للجهاد.
لكن القيمة المعنوية العليا للشهادة تندرج في نسق مفهومي متكامل، وعلينا الانتباه إلى أسبقية هذا النسق على المنظومة الحقوقية المعاصرة، ما قد يؤدي إلى إكساب قتلى الانتفاضة ثقلاً رمزياً في الوقت الذي يقلل فيه من أهمية الحقوق التي يجب أن يتمتع بها القتلى. فعلى صعيد الوجدان العام ليس من المألوف المطالبة بحقوق للشهيد، باستثناء الانتقام له، لأن الشهادة على المستوى السياسي تضع القاتل في موقع العدو الذي ينبغي القضاء عليه، وهذا ما يمنح للأخير ضمناً أحقية الدفاع عن النفس حتى مع استخدامه أقسى الوسائل.
صحيح أن بعض الفقهاء توسعوا في موضوع الجهاد، وبناء على ذلك اتسع مفهوم الشهادة، إلا أن السمة الطاغية بقيت في الجهاد ضد الآخر “العدو الخارجي”، وفي الوجدان العام لا نجد اتفاقاً على إطلاق صفة الشهادة على ضحايا الاقتتال الداخلي، مع أن كل طرف من أطراف الاقتتال قد يدّعي هذه الميزة لضحاياه. على سبيل المثال؛ أطلق الحكم في سوريا على ضحاياه في معركته مع الأخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي صفة الشهداء، وفي الطرف المقابل نسب الأخوان لضحاياهم الصفة ذاتها، أما عموم أفراد الشعب السوري فلم ينظروا إلى قتلى الطرفين على أنهم شهداء بالمعنى الذي اعتادوا عليه للكلمة.
الأمر مختلف الآن مع الانتفاضات الشعبية، لأنها عندما تنزع الشرعيةَ عن النظام فهي تسقط عنه كونه طرفاً داخلياً ما دام متشبثاً بالسلطة. وبتعبير أدق؛ عندما يغدو النظام متخارجاً مع الإرادة الشعبية المُعبَّر عنها بوضوح فإنه يفقد ضمناً حق استخدام العنف بوصفه ممثلاً للدولة، وإذ يضع نفسه في مرتبة العدو فإن ضحاياه يكتسبون ميزة أخلاقية تتجلى بمفهوم الشهادة. تتضح هذه الفوارق عندما نقارن خطاب اليوم بالأدبيات السياسية السابقة على الانتفاضة؛ فسابقاً دأب المعارضون ودعاة حقوق الإنسان على فضح أساليب القمع والتنكيل التي تستخدمها الأنظمة، ومن موقع ضعف المعارضة كان الحديث يدور عن ضحايا الديكتاتورية، وحتى مع نيل الضحايا أقصى درجات التعاطف ندر أن وصِفوا بالشهداء. وبما أن التركيز كان بمجمله على فظاعة الديكتاتورية فقد استلزم ذلك التركيز على مفهوم الضحية، فضلاً عن أن الاعتراف بالأنظمة، مهما بلغت من التعسف، كان بمثابة الأمر الواقع الذي يصعب معه ظهور خطاب راديكالي معارض على أي مستوى بسبب غياب القوة الفعلية على الأرض.
بموجب ميزان القوى المستجد غادرت الضحية كونها ضحيةً وحسب، وربما من المنطقي أن نشهد تسرعاً من البعض في محاولة التخلص من إرثها كضحية، فالمطلوب اليوم هو إذكاء روح الشجاعة والمواجهة، ويقتضي الخطاب الجديد شيئاً من الرومانسية الثورية التي لا يستقيم معها التوصيف الحيادي البارد، فلا يرى بأساً في استرجاع المخيال الديني بوصفه محرضاً “إيجابياً”، خاصة إذ ينزع عن الموت صفة العدم. أيضاً يجوز القول إن الضحية غادرت موقعها المفرد، وانتقلت إلى الفضاء العام مكتسبة موقعاً رمزياً، يرافق انتقالها هذا انزياحٌ يجرّدها من خصوصية معاناتها ليختزلها في لحظة الفداء.
لا يأتي التسرع المشار إليه سابقاً من أسباب سياسية فقط، فمحاولة التخلص من إرث الضحية تدغدغ نزوعاً نفسياً عاماً لذا سرعان ما تلقى القبول والترحاب من قبل الكثيرين الذين عانوا من القمع والكبت، وعانوا من نقمة مركبة جزء منها على الطغاة وجزء على الذات المقموعة. وينبغي ألا ننسى في هذا السياق الثقافةَ العامة التي تزدري الضعف وتحتفل بالقوة، وهي الثقافة ذاتها التي سمحت بوجود طغاة، وأنجبت أولئك الذين يحتفلون بالمستبد ويتماهون معه بوصف تجسيداً للقوة شبه المطلقة، أو المطلقة أحياناً. لكننا نعلم في المقابل أن تماهي الضعيف مع المستبد ليس نهائياً، ولا يعدو عن كونه تعويضاً عن عدم امتلاك القوة، فالدخول في علاقة سيطرة لا يلغي بالمجمل النزوعَ إلى الدخول في علاقة متكافئة، وإن أخذ التعويض عند البعض نزوعاً إلى علاقة سيطرة معكوسة.
أبطال، شجعان،… أولئك الذين يقاومون الديكتاتورية بصدورهم العارية، الذين يغامرون بحياتهم مع كل طلقة مشينة من قناص، يستحقون مثل هذه الأوصاف وأنبل منها أيضاً. لكن علينا تذكر أن هؤلاء ينزلون إلى الشوارع والساحات طلباً للحرية، لا طلباً للشهادة، ولا يجوز بأي حال التغطية على الواقع بغنائية حماسية بتداول مثل هذا الخبر “تم اليوم زفاف الشهيد…”. فهذا النوع من الزهو لا يقيم اعتباراً للقتلى، ولا لحقهم في الحياة الحرة الذي حرموا منه، وهو يبدو غريباً على نحو خاص عن الانتفاضات العربية الحالية لأن مجمل ما ترفعه من شعارات يندرج في إطار المنظومة الحقوقية المعاصرة ومنها الحريات الديمقراطية، وفي الطليعة منها طبعاً الحق في الحياة.
دائماً كانت المشكلة في تسييس القتل هي تغييب المعاناة والألم، سواء من ناحية الضحية التي أُجبِرت على هذا الخيار، أو من جهة ذويها الذين يكابدون معاناة قد لا تقتصر على الفقد. ودائماً كان تسييس القتل يمنح مشروعية للعنف، بل ويمنح قيمة أخلاقية لأحد طرفي علاقة القتل على الأقل، ولا نعدم عبر التاريخ حالات تم فيها تمجيد القاتل بدلاً من الاقتصاص منه، مثلما لا نعدم حالات تم فيها تمجيد الموت بحيث تصبح الشهادة مطلباً لا قدراً بائساً ينبغي السعي إلى تغييره، ولا يتسع المجال هنا لذكر بعض الأدبيات التي روجت لنزوع نيكروفيلي تحت مسميات البطولة والشجاعة والفداء. بل إن تركيز الصفات الأخيرة على الضحايا قد يقلل من شأنها لدى آخرين لم يلقوا المصير ذاته، فتغدو التضحية معياراً للشجاعة بما في ذلك من ظلم للقتلى ولمن لم يسعفهم الحظ بأن يكونوا بينهم!
آلاف من القتلى؛ هذه هي الحصيلة غير النهائية لضحايا الانتفاضات العربية، دون الأخذ بالحسبان الضحايا السابقين للديكتاتوريات العربية، لكن واجب الاحترام تجاههم يملي علينا تذكر القيم التي قتلوا من أجلها. ومن المؤسف أن يكون القتل شرارة انطلاق للانتفاضات، فمحمد البوعزيزي الذي أصبح رمزاً لها لم يقدم على حرق نفسه إلا عندما صار الموت أسهل من مكابدة التعسف والظلم، لم يدر في باله أن يقدم أنموذجاً لأحد ولا أنه سيصبح رمزاً، ومن المرجح أنه كان ليفضل لنفسه حياة حرة كريمة على المصير الذي وصل إليه.
إن لآلاف الضحايا الذين سقطوا ديناً يجب الوفاء، وبتعبير أدق؛ إن لهم حقوقاً يُخشى ضياعها في غمرة الحماسة والتمجيد، أو حتى ضياعها في خضم تسويات سياسية، وما يُخشى منه في تعميم مفهوم الشهادة هو تهميش تلك الحقوق أو حتى التخلي عنها. ما حدث ويحدث يرقى لأن يكون جريمة ضد الإنسانية، وإنصاف الضحايا يقتضي السعي إلى محاكمة القتلة محاكمةً شفافة وعادلة، ودون ذلك يكون الأحياء قد فرطوا بـ”شهدائهم”، وفرطوا بالقيم التي قتلوا من أجلها. قد تقتضي المصلحة العامة في بلد ما العفوَ عن الجناة، ولكن للمحافظة على حقوق الضحايا ينبغي أن يكون العفو بعد المحاكمة والإدانة لا قبلهما، وأية تسوية سياسية ترسّم الضحايا كشهداء وتسرق حقهم هذا هي بمثابة التفريط، لذا يُخشى أن تصبح الشهادة تعويضاً عن حق الذي سبق أن أُهدرت حقوقهم وهم أحياء.
هناك من يستهويهم إطلاق وصف الشهداء دون تفكير بمخاطره، هناك من يطلقه تعبيراً عن الاحترام والتقدير؛ وليكن ولكن على ألا ننسى أنهم ضحايا بكل ما لهذه الكلمة من تبعات وحقوق.
موقع الآوان