صفحات الرأي

جذوة «الربيع» اليانعة

موسى برهومة *

بخلاف الكثيرين ممن لا يروق لهم تعبير «الربيع العربي»، ويذهب نفر منهم إلى تسميته «الخريف»، فإن في ثنايا التعبير الأول، ملامحَ انبثاق وعي عربي، وربما يغدو عالمياً بسقوط منظومة الخوف من السلطات الحاكمة، مهما تعاظمت ترسانتها العسكرية القامعة، أو اتسعت سجونها، وضاقت أقبيتها.

الثورات أو الانتفاضات الشعبية التي تولّدت من رحم «الربيع العربي» حقنت الناس بمصل الشجاعة والجرأة، وكسرت حاجز التردد، وأعادت صورة العسكري إلى بنيتها الطبيعية، فلم تعد صورة ذلك المدجج بهراوته وسلاحه وقوارير غازه المسيّل للدموع، توقع الرعب ذاته في نفوس المحتجين، كما كانت تفعل من قبل، ولقد اختبر كاتب هذه السطور هذا التحوّل بنفسه، وعاينه على نحو حثيث.

ثمة في أزمنة «الربيع» سلطات تتهاوى، وثمة شحنة عالية من التمرد تستعيد حيويتها وحضورها، وثمة أيضاً هجس ملحّ ومتواصل بالقضايا المسكوت عنها، وتفكير لا يهدأ باللامفكَر به.

وفي فضاء مشرّع على التحولات، تتخلّق نزوعات نحو ثورات خافتة وناعمة تحت السطح، وبعيداً من الأضواء والضجيج، تبدأ من السلطة الأبوية بمعناها البيولوجي المباشر، ثم سلطة العائلة والعشيرة، وصولاً إلى سلطة العمل، فالسلطة السياسية الحاكمة بأذرعها المتعددة.

وفي غمرة الغياب الفادح للعدالة، فإن القضايا المعيشية التي تمسّ الحاجات الأساسية للإنسان تتصدّر واجهة المشهد، مستعيدة، على نحو لا واعٍ، ربما، المقولة الذائعة الصيت عمن لا يجد قوت يومه، ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه.

ولما كان خروج الناس شاهرين سيوف غضبهم، حقق في الأغلب نجاحات غير محلوم بها، لا سيما تلك المتصلة بالقضايا المطلبية العمالية، فإن ذلك قد أصاب بعدواه «الثورية» جموع الساكتين عن ضيم مديد، ودفعهم نحو إعلاء أصواتهم، وإسماع كلماتهم «من به صممُ»!

في المقابل، وكخطوة وقائية ذكية، راحت بعض السلطات العربية، تستشعر العاصفة، فبادرت إلى فقء البؤر المتورمة، ونزع فتيل التوتر في بلدانها عبر مبادرات اقتصادية، وتحسين ظروف المعيشة، وإشعار مواطنيها بالاستقرار، وتحقيق الرضى الذي يجعل العيون «عن كل عيب كليلة»!

بيْد أن سلطات «حمقاء» راهنت على شراء الوقت، وتلاعبت بضمائر مواطنيها، وتوسلت بالكذب والخداع، حتى ارتطمت بالجدار الشاهق، فتمزقت رمزية قادتها، وتآكلت صدقيتهم، وأضحى شتمهم، الذي كان يعاقب عليه القانون بتهمة «إطالة اللسان»، مثل شربة الماء.

هذه الدول الكليلة واجهت مطالب شعبية كان يمكن حلّها بمنتهى البساطة، لكنها، وهي المولعة بـ «الآكشن»، فضّلت الأحداث الدراماتيكية، فاضطرت إلى تقديم تنازلات لم تكن تحلم بها المعارضة أو تتوقعها. وعلى رغم ذلك ظلت صورة السلطة قاتمة، وانكشف فسادها وإفسادها، فاضطر الحاكم للاحتماء بإسرائيل وأميركا خوفاً من شعبه!

إن هجاء «الربيع العربي» يحركه ربما ما فرزه هذا «الربيع» من وصول السلطة الى أحزاب لم تتجذّر في أدبياتها الممارسة الديموقراطية، فراحت تستأثر بالحكم، وتُقصي الآخرين، وتحكم المجتمع بعقلية الماضي، وسطوة الشريعة.

لكنّ ذلك لا يعني نهاية المطاف، فالصناديق التي جاءت بهؤلاء، ربما تأتي بغيرهم. المهم أن تبقى جذوة «الربيع» يانعة. والمهم أن تنخرط كل القوى في توجيه دفة هذا الربيع نحو ترسيخ قيم الديموقراطية والحرية والعدالة والكرامة.

ربما يكون «الربيع» قد أثمر فاكهة مرّة المذاق، لكنّ الأرض ولّادة، وتطرح كل حين ثمراً جديداً. لذا من الضروري أن نُحسن البذار، لكي نقطف الثمر المشتهى.

* كاتب وصحافي أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى