شهرزاد المغربية تلويحة وداع وامتنان لفاطمة المرنيسي/ محمد العباس
فاطمة المرنيسي، أو كما يسميها ياسين عدنان (شهرزاد المغربية) في الكتاب الذي أعده وحرره وحمل العنوان نفسه، الصادر حديثاً عن مركز الشيخ محمد بن إبراهيم آل خليفة للثقافة والبحوث، لا تكتفي بالسرد الإمتاعي لتخدير الشهرياريين، ريثما تمر عاصفة الحقوق، بل تجادلهم كعالمة اجتماع بخطاب نسوي له مزاياه الأدبية، وهو الأمر الذي لا يروق لمن يسميهم (الأكاديموس) لأنها، من منظورهم، لا تحترم منهجية البحث العلمي ومعاييره الصارمة، وهو اتهام لا يصمد أمام سمعتها ومكانتها ومقروئيتها وجهودها الكبرى في استنطاق نساء القاع الاجتماعي، وإطلاق أوراش الكتابة داخل الجامعة، ومقارباتها لتحرير اللغة، بصوت شهرزادي ديمقراطي النزعة.
فاطمة المرنيسي امرأة عصية على التصنيف، حسب مقدمته «يتداخل الفكر فيها بالأدب، والبحث الأكاديمي بالتخييل»، ولذلك يصعب اختزالها في القالب النمطي للنسويات العربيات، حتى عندما قاربت التراث الديني لم تتبن النظرة اليسارية الهجومية، بل جادلت تلك المنطقة الوعرة بروح الفقيهة المتصوفة خريجة جامعة القرويين، كما أنها لم تستجب لتلويحات الاستشراق الغربي بتقديم المرأة داخل إطار الحريم، بل جابهت الغرب بعنف خطابه الرمزي ضد المرأة، فهي تمتلك «طريقتها الخاصة في قول الأشياء، وفي طرح الإشكاليات وبسطها»، انطلاقاً من إيمانها بالفتوحات الديمقراطية، التي تجعل من شهرزاد العصرية أكثر قدرة على التعبير والحضور.
الكتاب يحتوي على ثلاثة أقسام (شهادات – دراسات – تلويح وداع)، في (الشهادات) يستذكر إدريس الكراوي «فاطمة المرنيسي كما عرفتها»، وتستدعي جميلة حسون بعض قبسها تحت عنوان «شيء من فاطمة المرنيسي»، كما تصفها فاطمة الزهراء طموح السباعي بـ «لبؤة الدراسات النسائية في الإسلام»، وتلقّبها لطيفة البوحسيني «المثقفة النسائية التي يُعَرّف بها بلدها»، فيما يكتب خالد الحروب :»سر بسير زمانك تسير»، وتسبغ عليها بلقيس حميد حسن صفة «العقل الذي لا يغيب»، ويلوح لها محيي الدين اللاذقاني «وداعاً للافاطمة.. امرأة من عدل وحرية»، ويختم الشهادات ياسين عدنان بـ «ثلاثة مواقف مع فاطمة المرنيسي»، حيث تشير عناوين تلك الشهادات إلى المكانة المرموقة التي تتمتع بها، كما تختزن من الدلالات ما يحيل إلى امرأة مثقفة، مؤثرة وفاعلة يتجاوز أثرها الكتابة الأدبية أو الطروحات الاجتماعية إلى المدارات الحياتية المعاشة، حيث تفيض الشهادات بحسّ الحبّ والمديونية لها.
أما الدراسات فيبدأها محمد نورالدين أفاية بدراسة «مفارقات الكتابة عند فاطمة المرنيسي»، كما يردد مآثرها عبدالله إبراهيم في «فاطمة المرنيسي إذا أفصحتْ»، وتستدعيها فاطمة المحسن في «النقد والنقد المضاد في خطاب نساء العالم الثالث»، ويستذكرها سعيد بوخليط في قراءة بعنوان «عقل بحجم عظمة امرأة»، كذلك تستعرض ربيعة جلطي بعض خطابها في «لسان الأنوثة المعتقلة»، ليعود خالد الحروب مرة أخرى بدراسة «سندبادة فاس تتعولم ضد الكاوبوي»، ويجادلها صلاح بوسريف في «نقد مزدوج لفكر الاسْتِبْعاد والاسْتعْباد في مفهوم الحريم عند فاطمة المرنيسي»، ليتقاطع معه محمد أشويكة في المكمن نفسه بدراسة «تشريح الذات والحريم»، أما عزيز الحدادي فيكتب «فاطمة المرنيسي تشيد جمهورية النساء – الحرية والمساواة».
في فصل (الدراسات) أيضاً تحاول أسمهان عقلان العلس استجلاء موقفها في «النبي والنساء»، وعلى حافة الموضوع ذاته يطوف حميد لشهب بدراسة «الإسلام، المرأة، الديمقراطية في فكر فاطمة المرنيسي»، وتقارب فاطمة كدو «دوائر الخوف في خطاب فاطمة المرنيسي»، لتُختتم الدراسات بقراءة لفريد الزاهي حول «فاطمة المرنيسي، حفريات الكائن وحكاية الإنسان»، وهذه الدراسات التي تتصدى لها أسماء كبيرة لا تنم فقط عن المنزلة الثقافية التي تحتلها، بل تحيل إلى ذات على درجة من الخصوبة والإثارة في الطرح، حيث يزدحم منجزها، ما يحفز على المجادلة والاختلاف، فكل موضوع من موضوعاتها، وكل كتاب من كتبها، هو محل تخرصات تأويلية وموطئ سجالات قابلة للانفجار والتشظي.
كذلك في محطة «تلويح وداع» تبدو الكتابات أكثر حميمية وشاعرية، وإن كانت بعض تلك التلويحات نيئة ومقتضبة ورسمية بعض الشيء، ولا تتناسب مع قامتها الفارعة، حيث يرثي قاسم حداد «صديقة الأمل»، ويصفها حسن كمال بـ»قلم ضد تقسيم الكون»، وتسميها عالية ممدوح بكلمة يتيمة مكتنزة بالدلالات «الزاهية»، وتضفي عليها عائشة المانع لقب «سيدة الألم»، وبامتنان كبير يكتب بيار أبي صعب «علمتنا أن نمعن النظر في ما وراء الحجاب»، أما الطاهر لبيب فيضع تلويحته تحت عنوان كثيف المغزى والدلالة «غابت امرأةٌ وبقيت المرأة!»، لينتهي فصل «تلويح وداع» بتلوحية مي الخليفة باسمها «تلويحة من مي الخليفة»، وتنسدل ستارة الكتاب بعرض بيبولوغرافي لمختارات من مؤلفاتها، التي استوطنت وعي ووجدان الإنسان العربي، وكانت بمثابة المنصات التي تقف عليها المرأة لتترافع من أجل قضيتها، بدون أن تستفز الرجل، لأنها تخاطبه بنص فيه من المسحة الأدبية ما يضاهيه من روح العقلانية، والجرعات الحقوقية.
الكتاب على درجة من الثراء والتنوع، وفيه ما يحاكي سيرة فاطمة المرنيسي ويستبقيها في قلب المشهد، وتلك الإسهامات مجرد عينات من حياة صاخبة لذات تتميز بالعناد الرقيق دفاعاً عن المرأة واستحقاقاتها، ففي كل شهادة استعادة هي بمثابة درس بليغ في العلاقات الثقافية القائمة على الانفتاح والمناددة، وفي كل دراسة معلومة أو فكرة تصلح لأن تكون حقلاً لحوار يبدأ ولا ينتهي، وفي كل تلويحة ذكرى تستحق أن تكون وساماً في حقل العلاقات الإنسانية، إذ يفسر كل ذلك الكم من المحتفين بها وشُرّاحها طبيعة اشتغالاتها المتشعبة وحضورها الإنساني الذي يجمع كافة الطبقات والفئات، حيث لم يتوسع الأداء المنهجي عندها ليقف حائلاً بينها وبين الناس، ولم يمنعها تباسطها من الالتزام بالصرامة العلمية، وهذا هو جوهر النداء الذي يوجهه عدنان ياسين في مستهل كتابه، أي ألاّ يتم التعامل معها بذات الذهنية التي تم التعامل بها مع القيمة الأدبية لكتاب «الف ليلة وليلة»، حيث النسيان على هامش الافتتان بالآخر.
تلك الحكّاءة المفتونة بالقصص، حسب تعبيره «قصصها هي قصص الآخرين، وحيواتهم»، وهي غير محاطة بالأصدقاء والمعجبين فقط، برأي إدريس الكراوي، بل «كان لها أيضاً خصومها، على غرار النساء العظيمات، اللواتي يتميزن داخل مجتمعهن بتوقد الذهن والذكاء والإبداع»، وهذا هو ما أغراها بالذهاب إلى السوسيولوجيا، حسب صلاح بوسريف، أي لرغبة أكيدة وعميقة في داخلها للانعتاق، ولذلك أثارت موضوع الكتابة كسلطة مقابل الشفاهية، ولم تعد لحراثة التراث الديني إلا لتأصيل الأصول، ولتنبيه فصيل من المثقفين المعاصرين المصابين بما تسميه، مرض فقدان الذاكرة إزاء تاريخ النساء، إذ لم يكن من المستغرب أن يُنشدها بيار أبي صعب بكلمات جامعة «تلك المرأة الضخمة، فارعة الطول، الجذلة، الساخرة، نسخة معاصرة من الكاهنة، بعباءتها الهادلة، سلطانة الجسد والحواس والعقل، عرّافة الناس الذين في أسفل الهرم، مغربها مغرب الناس العاديين المستغلين، والنساء اللواتي منحتهن حق التعبير.
كاتب سعودي
القدس العربي