مراجعات كتب

غويتسولو يتعقّب مصارعي الزيت في تركيا.. الخفة والقوة/ عبد الرحيم الخصار

 

 

اختار خوان غويتسولو الذي حاز جائزة سرفانثس أول أمس مؤخراً أن يستهل كتابه «قوي مثل تركي» بالعودة إلى العصر الذهبي الاسباني، وتحديداً إلى شعر لويس دي جونجورا، للتمهيد لمحكياته عما شهده بخصوص «مصارعة الزيت» إحدى أشهر وأعرق التظاهرات الرياضية الشعبية بتركيا.

الكتاب عبارة عن نص سردي تليه حوارات مع الكاتب، وقد نقله إلى العربية المترجم المغربي المبارك الغروسي، وصدر قبل أيام عن دار «كراس المتوحد» بمراكش، ضمن سلسلة اختار الناشر عبد الغفار سويرجي أن يسميها «البِركة»، واختار في الآن ذاته أن يكون أول من يفتتحها هو غويتسولو، الكاتب الاسباني الأشهر الذي يعيش في مراكش منذ سنين طويلة، والذي سبق أن خصص أعمالا وأفرد نصوصاً مميزة عن الثقافة العربية والإسلامية في عدد من المدن مثل فاس والقاهرة والجزائر وغزة وغيرها.

في كل إصدار جديد يفاجئ غويتسولو قراءه، سواء باختياره الموضوع الذي يسرده أو بطريقة السرد، وبنظرته الخاصة للأحداث ووصفه المشاهد وضبطه لما يبدو عابراً وسريع الزوال.

والعودة إلى دي جونجورا لها ما يفسرها، فهو حين يقف عند «الأشجار التي تظاهرت بكونها غابة/ ترسم مسرحاً ظليلا/ وتكشف الميدان/ ملعباً أولمبياً/ لفلاحين بواسل عراة» إنما يهمه في هذا المقطع الشعري الوصف الذي أطلقه الشاعر قبل خمسة قرون على مشهد يتراءى لغويتسولو في عصرنا الراهن، مشهد مصارعي الزيت العراة في ملعب أولمبي يتحلق حولهم عدد هائل من المتفرجين.

ثمة تقاطع آخر، فمنبع الحكاية التي أفرد لها غويتسولو كتابه يعود إلى فترة غير بعيدة عن زمن دي جونجورا رائد تيار «الكلوترانسيمو»، فقبل ستة قرون وخلال المعارك التي كان يقودها سليمان باشا، وتحديداً خلال فترة هدنة قصيرة اختار محاربان أن يتصارعا ودفعهما الحماس إلى الاشتباك ومواصلة الصراع على مدار يوم وليلة حتى خارت قواهما وماتا معاً في اللحظة نفسها، دفنهما رفاقهما، وحين عادوا لاحقاً لزيارتهما وجدوا بدل القبرين أربعين نبعاً، فسموا المكان بالاسم ذاته، هذا ما ترويه الأسطورة التركية، وتضيف إليها كما سرد الكاتب: «ويفترض أنه عندما نقلوا حكاية هذه المعجزة إلى رؤسائهم أمرهم هؤلاء باستئناف الحماس الجميل والعناد البهيج المتمثل في ذلك العناق الصارم القاسي: من أجل مجد أرواح رفاقكم انزعوا عنكم ثيابكم وتصارعوا أمام الينابيع الأربعين».

قبل الوصول إلى جزيرة «سراي إيجي» حيث تجري مباريات «مصارعي الزيت» بداية كل صيف، ينتبه غويتسولو إلى تفاصيل دقيقة وهو يصف الطريق إليها من اسطنبول، أو وهو يصف مزاج السائق. ثم يتوقف عند تفاصيل أخرى تهم مكونات المكان، كما يعود من حين لآخر إلى التاريخ، إلى الماضي ومحاولة ربطه بالحاضر، ساعياً في الآن ذاته إلى إجراء مقارنات وتمرير رسائل فحواها في الغالب انتقاد التحول الذي طبع الحياة الحديثة.

ليست مهمة الكاتب هي الوصف فحسب، وهذه خاصية يجيدها غويتسولو، لذلك لا يتوقف عند التفاصيل المرتبطة بـ»مصارعة المدهونين»، أو ما يسمى في تركيا «الياغلي»، بل يتجاوز الوصف ليقوم بقراءة في الأبعاد السوسيولوجية والاقتصادية والفنية أيضاً لهذه التظاهرة الشعبية التي يحلو للكاتب أن يقارنها بمصارعة الثيران في اسبانيا.

يقدم الكتاب، الذي تزينه صور بالأبيض والأسود للفنانة الفوتوغرافية الاسبانية إيزابيل مينوز، نصاً يجمع بين أدب الرحلة والتقرير الصحافي لكن في شكل سردي محكم، حيث تتعاقب المعطيات التاريخية والتفاصيل المرتبطة بالياغلي من قواعد ووضعيات وأزياء وأسماء الرموز، كل ذلك بعين روائي متمرس، جعل بناء نصه دائرياً، أنهاه من حيث بدأه، إذ نجده يعود إلى ديوان «العزلات» لدي جونجورا: «فكما هي حفلات أعراس الشاعر في ديوانه، فالخصوم المقيدون في تشابكات متبادلة يتمددون في المجال كما الدردار في شجرة الكروم؛ فالخفة لا تمنع القوة. إن إيقاع قلوبهم المنهك ينتقل إلى قلب المتفرجين ويهتز في الباحة على أصوات الطبول والموسيقى…نزال فريد بين بطلين متشابكين مضبوطين الواحد على الآخر يلهثان على أدراج اليوم المشبوهة».

عبد الرحيم الخصار

(الرباط)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى