شهرٌ حاسم لمصير منطقة «الشرق الأوسط»
صبحي غندور
تشهد منطقة «الشرق الأوسط»، بما فيها البلاد العربية والقوى الإقليمية الفاعلة حولها، كإيران وتركيا وإسرائيل، حالةً تُشبه المخاض الذي يسبق الولادة. فبلدان المنطقة كلّها كانت في السنتين الماضيتين حبلى بمتغيّرات تحدث إمّا فيها أو حولها، دون معرفةٍ حاسمة لاتّجاه هذه المتغيّرات أو لمدى انعكاسها على مصير الأزمات والعلاقات والكيانات في هذه المنطقة الشديدة الحساسية من العالم.
وقد أدّت تفاعلات الأحداث الجارية الآن في سوريا، وقبلها في ليبيا، إلى بروز تطوّرٍ سلبي في العلاقات بين الأقطاب الدوليين، خاصّةً بين واشنطن وموسكو، وهو أمرٌ يهدّد الآن الأمن العالمي ويطرح علامات استفهامٍ كثيرة حول مستقبل أزمات دولية عديدة، معنيّة بها واشنطن وموسكو معاً. وقد كان التوافق الدولي الذي حصل بشأن مهمّة كوفي أنان قد أعطى مؤشّراً إيجابياً لم يصمد طويلاً، حيث تبيّن أن موسكو وواشنطن اتّفقتا من خلال دعم مهمة أنان على ضبط حدود الخلافات بينهما حول الملف السوري ولم يتّفقا على طبيعة الحلّ السياسي المنشود لهذا الملف. ولذلك ظهرت التباينات مؤخّراً (والانتقادات المتبادلة) بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة حول مصير مهمّة أنان وحول مستقبل النظام السياسي في سوريا.
للأسف، المنطقة العربية هي الآن تحت وصايةٍ دولية غير مباشرة، بل بعض قوى المعارضة العربية تدعو علناً لجعل هذه الوصاية حالةً قانونية منشودة. وللأسف أيضاً، ليس هناك الآن مرجعية عربية فاعلة قادرة على ضبط الصراعات الداخلية في بلدان المنطقة وعلى منع التدخّل الأجنبي فيها. ذلك كلّه يجعل مصير المنطقة وأزمات بلدانها مرهوناً بقراراتٍ دولية وبإراداتٍ خارجية وبمدى التوافق أو الصراع بين القوى الكبرى.
هي حالةٌ شبيهة بما كانت عليه المنطقة منذ مائة سنة، حيث كانت هناك إراداتٌ دولية تتحكّم في مصيرها بل وتصنع طبيعة أنظمتها السياسية وحدود كياناتها السياسية الوليدة بعد انتهاء حقبة «الدولة العثمانية». وهي مرحلةٌ انتعشت فيها الأفكار المطالبة بالإصلاح والتنوير والتغيير، لكن كان الواقع على الأرض يسير في اتّجاه معاكس. هي مرحلة كانت تتزامن فيها مشاريع التدويل والتقسيم للبلدان العربية مع نموّ دور الحركة الصهيونية في فلسطين والعالم عموماً.
الآن، يتوقّف مستقبل أزماتٍ عديدة في المنطقة على قرار واشنطن وموسكو. فزيادة حدّة التوتّر بينهما تعني مزيداً من التأزّم في الملفّات الساخنة في «الشرق الأوسط»، وفي مقدّمتها «الملف السوري» و»الملف الإيراني»، وهذا سينعكس حتماً على كلّ البلدان المجاورة لسوريا وإيران، وعلى «الملف الفلسطيني» أيضاً وأبعاده العربية الدولية، وعلى منطقة الخليج العربي والاقتصاد العالمي. لذلك، كانت الأنظار متّجهةً في الشهر الماضي (أيّار/مايو) لقمّة مجموعة الثماني في «كامب ديفيد» لمعرفة مقدار التفاهم أو التعارض بين موسكو وواشنطن حول سوريا وإيران، لكن غياب الرئيس الروسي بوتين عن القمّة منع الحسم في قراءة طبيعة العلاقات والتفاهمات الأميركية/الروسية، مما أدّى أيضاً إلى استمرار الغموض في كيفيّة رؤية مستقبل سوريا ومصير الموقف الدولي من «الملف النووي الإيراني».
ولذلك أيضاً، كانت قمّة المكسيك لمجموعة العشرين هي المحطّة المهمة التي انتظرها المعنيّون بأزمات «الشرق الأوسط» لمعرفة اتّجاه الريح في العلاقات الأميركية/الروسية، ثم جاءت تصريحات بوتين وأوباما بعد لقائهما في هذه القمّة لتعطي أملاً محدوداً بإمكانيّة التفاهم بينهما حول كيفيّة التعامل السياسي مع الأزمة السورية. وهذا التطوّر الإيجابي النسبي سيرتبط حتماً بنتائج محادثات موسكو حول «الملف النووي الإيراني».
فمن المهمّ الانتباه إلى أنّ التوافق الروسي- الأميركي الذي حصل في السابق على إعداد وإعلان خطّة أنان، قد رافقه أيضاً آنذاك التفاهم على كيفيّة التعامل مع الملف النووي الإيراني، حيث تزامن إعلان الخطّة بشأن سوريا والإجماع في «مجلس الأمن» على دعمها، مع نجاح جلسة المفاوضات التي حدثت في إسطنبول أولاً ثمّ في بغداد حول الملف النووي الإيراني.
إنّ الشهر الحالي (حزيران/يونيو) سيكون شهرا حاسماً لمصير العلاقات بين موسكو وواشنطن وللأزمات الساخنة في منطقة «الشرق الأوسط». فإذا جرى فعلاً تثبيت وتفعيل التفاهمات الأميركية/الروسية بشأن الملفّين السوري والإيراني، فإنّ ذلك سيكون حتماً لصالح الحلول السياسية التي ستعطّل الكثير من مشاريع الحروب الأهلية والإقليمية، والتي لا يعرف أحدٌ مداها أو حسابات الربح والخسارة فيها.
لقد أصبح واضحاً الآن أنّ إدارة أوباما لا تجد مصلحةً أميركية في زيادة الخلاف والتناقض مع المواقف الروسية والصينية. كذلك أيضاً هي رؤية الاتحاد الأوروبي، المتضرّر الأول من عودة أجواء «الحرب الباردة» بين موسكو وواشنطن، في ظلّ التراجع الاقتصادي الأوروبي والحاجة الأوروبية لعلاقاتٍ اقتصادية وسياسية جيّدة مع الصين وروسيا.
أيضاً، لا تجد الآن الإدارة الأميركية أيَّ مصلحةٍ في تصعيد التوتّر مع إيران أو في تبنّي مقولة استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية وسوريّة، بل تنظر إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري المطلوب إسرائيلياً، ومن بعض الأصوات في الكونغرس الأميركي، كخطرٍ أكبر على أميركا ومصالحها من أيّة حربٍ أخرى خاضتها في العقود الماضية. فالحالتان الإيرانية والسورية تختلفان تماماً عن حالة كوسوفو أو ليبيا، أو حتّى العراق وما أدّت الحرب الأميركية عليه من أضرار كبيرة على الولايات المتحدة.
لذلك حصلت هذه التفاهمات الأميركية/الروسية على كيفيّة التعامل مع الملفّين السوري والإيراني، لكن هي الآن تفاهمات على منع استمرار الانحدار السلبي للملفّين أو وصول أيٍّ منهما لحالة الحرب الإقليمية أو العالمية، ولم يصل بعدُ التفاهم الأميركي/الروسي إلى حدِّ التوافق على كلّ المطلوب مستقبلاً من وجهة نظر كلّ طرف، فهي مسألة مفتوحة الآن لمزيدٍ من التفاوض، لكن الامتحان الفعلي لها سيكون خلال الأسابيع المحدودة القادمة، قبل أن تنشغل إدارة أوباما وأميركا كلّها في شهر نوفمبر بالانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث ستكون إعادة انتخاب أوباما لفترةٍ ثانية هي المحطّة الأهم لبناء الاتّفاقات الممكنة بين المحورين: الأميركي/الأوروبي، والروسي/الصيني، على قضايا دولية عديدة بينها خطّ الأزمات الممتد من طهران إلى غزّة، مروراً بالساحتين السورية واللبنانية.
فخيار التسويات هو الخيار الوحيد المتاح حالياً أمام الأقطاب الدولييين، حتّى لو كانت هناك «معارضات» لهذه التسويات على مستويات محليّة وإقليمية. وهاهي المنطقة العربية من جديد أمام مراهناتٍ على «الخارج»، بعضها يأمل بحلّ مشاكل مصدرها الأساس هو ضعف «الداخل» وتشرذمة، وبعضها الآخر يسعى إلى مزيدٍ من التدخّل الأجنبي، حتّى لو كان على حساب وحدة الأوطان والشعوب معاً!.ا
ايلاف