صفحات الثقافة

شِعْــريَة اللُّغَــة

صلاح بوسريف

في الثقافة العربية، حَسَمَ النقدُ القديم، وهو ما سَيَسِيرُ فيه النقد الحديث، هو الآخر، في فَصْل ‘لغة الشِّعر’، والمقصود بالشِّعر، هنا، النَّظْم، تحديداً، و ‘لغة النثر’. لا لُغَةَ تسمح بحضور الأخرى في أرْضِها، كُلُّ أرْضٍ تَسْتَفْرِدُ بمعجمها، وبطريقة ‘نَظْمِها’، بتعبير الجرجاني، ناهيكَ عن الوزن، الذي سيكون الخَطَّ الفاصِلَ بين ‘الشِّعر’ و ‘النثر’.

هذا الحَدّ، أو الحُدُود الفاصلة بين الشِّعر، أو ‘القصيدة’، وبين غيرها من الأنواع التعبيرية الأخرى، أصبحت بين أهم المعايير التي وَجَّهَت الذوق، في الثقافة العربية، ووجَّهَت جمالية قراءة الشِّعر، والحُكْم عليه. ما لاوزنَ فيه، ليس شِعراً، بحكم هذا الحَدِّ، وكل مفردة، يستعملها الشَّاعِر، ينبغي أن تكون خارجةً من السياق الشِّعري، أو هي من صميم هذا السياق، حتى لا يلتبس الشِّعر بالنثر، وتصبح المسافة بين الطرفين غير معروفة، وغير قابلة للفصل.

في هذا، فصْلٌ في اللغة ذاتها، بين ما هو نثر، وما هو شعر، ما يعني أن اللغةَ فيها ما يصلح للشِّعر، وما لا يصلح له، وهو ما كان النقد القديم، عابَهُ على شعراء من مثل أبي نواس، حين استعمل تعبيرات فلسفية في شعره، وهو ما كان عدد من الشُّعراء فعلوه، لتوسيع ‘لغة الشِّعر’، والانفتاح على مختلف العلوم، والمعارف، التي شرعت في الانتشار في زمنهم.

اليوم، ما يزال الكثير من نقاد الشِّعر، وأنا أستعمل العبارةَ هنا تجاوُزاً، لم يتخلَّصُوامن هذه المعيارية اللغوية، وما زال الشِّعر عندهم، هو تلك الكثافة البلاغية، التي تكون فيها الجملة، أو الصورة، مُثْقَلَةً بـ ‘الشِّعر’، أو بالتَّوَّثُّر الشِّعري، الذي تتعاقبُ فيه الكلمات، بنوع من النَّفَس الشعري الخَطِّيِّ المُتلاحِق، إلى أن يتوقف النص. لا مجال للنثر، في الشِّعر، ولا مكانَ له فيه، فالشعر شعرٌ، والنثر نثر، ولا ينبغي أن يلتقيا!

في ما أعمل على كتابته في النصوص التي أنا بصدد مراجعتها، في سياق هذا المعنى، طبعاً، حرصتُ على رفض هذه المعيارية اللغوية، ووضعتُ النثر، في سياق الشِّعر، بما قد يُقْلِق الشِّعْرَ بالنثر، أو يُقْلِق شعرية القراءة، في بعض الأحيان، أو يجعل الجملةَ، أو الصورة تُراوِح بين ‘الشِّعر’، بتواتراته المختلفة، وبين ‘النثري’، بانشراحه، أو رحابته، التي تُتِيح للنص أن يعود باللغة إلى شعريتها الأولى، التي كانت الكتابات المقدسة، أو الأسطورية القديمة، مارستْها، دون إجبار اللغة على أن تكون لغة للنثر، ولغة للشِّعر. فالشاعر، في النهاية، هو المسؤول على تدبير هذا التراث، أو الإرث اللغوي، وتحويل خاماته، إلى مادة قابلة لـ ‘التصنيع′، وقابلة لتكون شِعراً، بالمعنى الذي به كُتِبَت النصوص الأولى، التي فيها من الشِّعر، ما يفوق الكثير مما نعتبره اليوم شعراً، رغم مواطن العطب الموجودة فيه.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى