صادق جلال العظم: “الثورات العربية قطيعة مع إرث الأيدولوجيات”
أجرت المقابلة: منى نجار
يعد المفكر السوري صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب، الذين يتخذون مواقف واضحة من قضايا حقوق الإنسان. في حواره مع دويتشه فيله يتحدث العظم عن ضرورة النقد الذاتي من طرف المثقفين العرب بعد نجاح الثورتين في مصر وتونس.
نلاحظ الآن أن الغالبية العظمى من المثقفين العرب يؤيدون الثورات، لا سيما تلك التي حصلت في مصر وتونس. لكن قبل اندلاع التحركات الاحتجاجية ونجاحها لم يكن موقف الكثير من المثقفين واضحا وناقدا بالشكل الذي نراه الآن للأنظمة الاستبدادية. ألا تظن أن الوقت حان الآن للقيام بنقد ذاتي من طرف الكثير المثقفين؟
صادق جلال العظم: لا أعرف أحدا قام بمسح لآراء المثقفين واطّلع على المواقف التي اتخذوها أو أجرى مقابلات معهم. هذه المسائل ضعيفة في بلادنا ونعتمد غالبا على الحدس والانطباع وقراءة يومية للوضع. إذا أخذنا مثقفا مصريا كمثال وهذا ينطبق على عدد من الدول الأخرى، التي تشهد تحركات وانتفاضات، فسنجد أنه قد عاش ضمن نظام له طابع شمولي ديكتاتوري يحد من الحريات والتعبير عن الرأي وهو مضطر كمصري بشكل أو بآخر أن يتعامل مع هذا النظام.
أنا لا أعتقد أن هذا الشخص مثلا جنّد نفسه لخدمة النظام. أنا أعتقد وأعرف من تجارب كثير من المثقفين، أنه لكي يستطيع المرء أن يستمر ويقوم بعمله كأستاذ جامعة مثلا أو ككاتب يقدم عددا من التنازلات، حلول وسط ضمن حدود، بتقديره هو لا تحرجه، يعني لا “تسوّد صفحته”.
عندما تحدث ثورة يصبح دور المثقف مثل أي مواطن آخر. من الممكن أن يخاف أو أن يشارك بقوة. وبعد نجاح الثورة كل هذه الكوابيس ترتفع ويشعر أنه تحرر من الاضطرار إلى تقديم هذه التنازلات، ويستطيع أن يتحرك بحرية. هذا النوع من المثقفين لا أظن أنهم مضطرون لأن يقوموا بنقد ذاتي، من الممكن أن يفسروا أو يشرحوا. ولكن هناك مجموعات أخرى كانت أبواقا للسلطة، عملت في الإعلام أو لعبت أدوارا تبريرية للنظام، مجدت القائد أو الرئيس. هؤلاء بلحظة يقظة ضمير من الممكن أن يعتذروا. ولكن مهما عملوا لن تصدقهم الناس ولن يستطيعوا تبيض صفحتهم، الكثير منهم ينسحبوا، يتراجعوا.
أليس من الضروري أن يقتح نقاش الآن عن المواقف المختلفة التي اتخذها المثقفون؟
العظم: ما زال الوقت مبكرا على فتح نقاش جدي. لا بد أن تصدر عدد من الأصوات أو المواقف، التي تدعو إلى هذه المراجعة. أنا لا أريد أن أقسو على المثقفين، إلا إذا كان واضحا مثلا كما هو في حالة جابر عصفور، المدير السابق للهيئة العليا للثقافة والذي أصبح وزيرا للثقافة في آخر أيام الرئيس مبارك ، الذي كان إلى حد ما محافظا على مسافة بينه وبين نظام مبارك وبعد ذلك سقطت هذه المسافة. هؤلاء لا يمكن أن نحترمهم بعد الذي حصل. والآن تظهر قوائم مع الأشخاص والمؤسسات التي قبضت من القذافي. بعد أن ترسو هذه الثورات ويتشكل نظام مدني ديموقراطي، عندئذ من الضروري فتح هذا النوع من النقاش. لكن أنا أعتقد أن دور المثقفين كان مهما من ناحية التحضير للثورات.
ماذا تقصد بذلك؟ الثورة قام بها الشباب؟
العظم: منذ مدة طويلة وقف عدد كبير من المثقفين بشكل واضح وصريح وأحيانا بشكل غير مباشر عبر الأدب، عبر الرمز مثلا مع قضية المجتمع المدني ودور المجتمع المدني، وقفوا مع قضايا حقوق الإنسان، أكدوا على المواطنة والحريات العامة. إذا رجعنا إلى “بيان الـ 99” سنة 2000مثلا ، وهو بيان وقعه مثقفون، جميع الشعارات تقريبا التي رفعت خصوصا في تونس ومصر موجودة فيه: رفع حالة الطوارئ أو المطالبة بالحريات موجودة هناك. كل الشعارات والآمال والتوجهات المطلوبة موجودة. لعب المثقفون دورا من هذه الناحية، خصوصا العلمانيون والمستنيرون لدرجة أن الأحزاب الدينية الرئيسة على طريقة “الأخوان المسلمون ” تأثرت بأطروحاتهم.
وهناك أيضا دور كبير للنموذج التركي، أقصد بذلك نموذج الإسلام التركي، أي وجود حزب مرجعيته إسلامية في بلد يعتبر نفسه مسلما، بلد مهم، له تراث إمبراطوري، ويصل هذا الحزب إلى السلطة بطريقة سلمية ديموقراطية سلسة بدون أن يشك أحد في نزاهة الانتخابات ولا يؤدي إلى خراب مثل ما صار في أمكنة أخرى حيث حاول الإسلاميون الوصول إلى السلطة مثل مصر، سوريا، الجزائرأو السودان. ناقش المثقفون هذا النموذج وأهميته بالنسبة إلى التداعيات وتطبيقاته والتشبه به.
أنت كنت أحد المشاركين في “بيان” 99، كما كنت دوما تدافع عن قضايا حرية الرأي. هل المجهود الذي بذلته شخصيا خلال العقود الماضية أثمر في النهاية في إطار هذه الثورات؟
العظم: طبعا لا أدّعي أن المجهود الذي قمت به أدى إلى الثورات. ولكن لا شك هناك تراكم، ليس فقط تراكم نشاط المثقفين، أيضا تراكم الواقع والمثقفون يواكبون هذا الواقع، يعبّرون عنه ويصفوه. عبروا عن انسداد الأفق أمام التجارب الأخرى مثلا التجربة الاشتراكية العربية أو التجربة الناصرية. بدؤوا يتكلمون عن البدائل وأن البديل الوحيد عن الاستبداد هو الديموقراطية ، في نفس الوقت تم طرح فكرة المواطنة. دارت نقاشات كثيرة وأنا أحد المشاركين في هذه المناقشات عن موضوع أهمية المواطنة، إذا أردنا نتجنب حرب أهلية طائفية.
نلاحظ أن دور المثقف في المجتمعات العربية بشكل عام ضعيف وليس له وزن فعلي. ما هي نظرتك أنت؟
العظم: طبعا هناك ضعف ولكن هناك جانب آخر أيضا. نحن متأثرون بنموذج المثقف الفرنسي، كمثقف عام، له رأي في كل القضايا المهمة والكبيرة. من ناحية أخرى في المجتمعات التي مستوى الأمية فيها عال يكتسب المثقف دورا أكبر وأهم. ولكن ليس بسبب أهمية المثقف أو بسبب عمق أفكاره ولكن نسبة إلى مستوى التعليم أو الثقافة السائدة في هذا البلد. أحيانا المثقف الحديث عندنا ورث دور الرجل الفقيه، رجل الدين في السابق. هناك شيئ باقي، لمسة، نظرة، شيئ من الاحترام الذي يُكنّ لرجل الدين انتقلت لمسة منها إلى المثقف.
ولكن إذا أردنا أن نتحدث عن الفاعلية المباشرة طبعا ضعيفة. الأمر كان سيختلف إذا كانت الحريات متاحة كمواطن أيضا ليس فقط كمثقف، عندما يدّرس في الجامعة مثلا تكون هناك حصانة لأرائه. إذا فكرنا بالدور الذي قام به المثقفون في دول أوربا الشرقية مثل تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفياتي في إنهاء الحكم الاستبدادي، نرى أنهم لعبوا دور تحضير وبلورة الأفكار. مقارنة بأوربا الشرقية دور المثقف العربي أضعف ولكن هناك شيئ شبيه.
هل تتوقع بأن يلعب المثقفون العرب دورا جديدا بعد الثورات؟
العظم: لن أتنبأ، ولكن أرجو ذلك. لا شك أن مصر وتونس تمران الآن بلحظة نسميها كاريسماتيك، لحظة مؤسِسَة وكاريسماتيك، نحس حالة حرية وفوران. هذه الحالة لا تدوم ، بعد ذلك تتحول إلى روتين الحياة، تتمأسس وهذه الروح تدخل على المؤسسات التي تنشأ أو المؤسسات القديمة التي ستتحول.
ماذا كانت أبرز مفاجآت الثورتين المصرية والتونسية بالنسبة لك؟
العظم: الابتعاد الكلي والنبذ تقريبا لنمط الحركات الاجتماعية التي نعرفها في السابق. الهتافات التي كانت تهتف والشعارات التي كانت ترفع فيها تقريبا كلها اختفت. لم أحس أنها اختفت بشكل تدريجي، لكن يبدو أن هناك قطيعة حدثت.
في السابق كانت حركات الاحتجاج ترفع شعار “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” أو “لا حرية لإعداء الشعب”، والتحركات تبقى دائما متجهمة، وجوهها عابسة، هناك جو تأزم شديد. هذا كله لم نحس به، بالعكس لأول مرة في العالم العربي نرى حركة احتجاج تطيح برئيس جمهورية فيها موسيقى وشعر ورقص وبالونات. هذا أقرب من الذي نشهده في أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية مما الذي اعتدنا عليه في السابق. والسابق ليس بعيدا. لنتذكر مثلا الاحتجاجات على الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية أو قضية سلمان رشدي، أو المظاهرات الداعمة لفلسطين.
الآن نرى روحا وممارسة جديدتين وأكبر مفاجأة هو القطيعة التي صارت مع النمط القديم لطريقة الاحتجاج والتظاهر المدني. هذا فيه نوع من النضج العالي. حتى الأمور الدينية التي ظهرت كانت تمثل تدينا فرديا، الذي يريد أن يصلي يصلي، الذي لا يريد لا يصلي. الذي يريد الوقوف تحت الصليب يقف، والذي يريد سماع القرضاوي يستمع.
عن موقع قنطرة 2011