صدام المخيّلات: عن أكراد سوريا وعربها
رستم محمود
بالأساس ثمة مخيلتان سياسيتان متباينتان متصادمتان، تقفان وراء انسحاب ممثلي المجلس الوطني الكردي السوري من المؤتمر الأخير للمعارضة السورية في اسطنبول، والذي كان يسعى لتشكيل جبهة موحدة فيما بينها. تشير المعلومات المتسربة، بأن ممثلي المجلس الكردي قدّموا ورقة سياسية تركز بالأساس على نقطتين اساسيتين. الأولى تقول بـ«سوريا دولة مدنية ديمقراطية متعدد القوميات ذات نظام جمهوري برلماني لا مركزي»، والثانية تنص على «الاقرار الدستوري بالهوية القومية للشعب الكردي وضمان ايجاد حل ديمقراطي وعادل لقضية الشعب الكردي في سوريا وفقا للعهود والمواثيق الدولية وضمن اطار المتحد الوطني. والغاء جميع السياسيات العنصرية والتمييزية المطبقة حيال الشعب الكردي وازالة اثارها ومعالجة تداعياتها وتعويض المتضررين منها». رفضت الأطراف العربية ذلك الطرح، لكنها في اليوم التالي أصدرت بيانا أوضحت فيه التزامها الشأن الكردي السوري، بما أقرته في اجتماع تونس الذي نظمته المعارضة السورية قبيل هذا الاجتماع بشهرين، حيث نصت: «أكد المجلس التزامه بالاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية، واعتبار القضية الكردية جزءاً من القضية الوطنية العامة للبلاد، ودعا إلى حلها على أساس رفع الظلم وتعويض المتضررين والإقرار بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار وحدة سورية أرضا وشعباً«.
بحسب ما يظهر من بين سطور التصورين المطروحين، نلاحظ وجود خلفيتين ومخيلتين سياسيتين متباينتين حد الشقاق والصدام.
تنبع الرؤية الكردية من مخيلة سياسية تتصور سوريا كدولة مكونة من عدد من الجماعات المتخالفة سياسيا، حيث يشكل أبناء القومية الكردية والعربية الجذر القومي لهذه المكونات، ويشكل المسلمون والمسيحيون الجذر الديني لهذه الجماعات السورية، بينما يتجزأ المسلمون بدورهم لجماعات طائفية أصغر، سنة وعلويين وإسماعيليين ودروز.. الخ. وهذه الجماعات، حسب المخيلة الكردية، تحتاج إلى عقد ووفاق فيما بينها. فيجب أن تتقاسم الحقوق والواجبات في سوريا المستقبل، كل جماعة حسب حجمها وحضورها الديموغرافي. المثال التوضيحي للرؤية السياسية الكردية يقع في منطقة وسطى بين الحالتين العراقية واللبنانية، حيث يحق للجماعات ما قبل المجتمعية، وما قبل السياسية، تحاصص الدولة وأدوارها وثرواتها المادية والرمزية، بشكل علني كما في المثال اللبناني، أو بشكل متفق عليه ضمنا، كما في النموذج العراقي. فالتركيز على عبارة «متعددة القوميات» يقصد منها التركيز على الجوهر التعريفي والمبدئي المتصور لسوريا المستقبل، التي خطفت تاريخيا بتعريفها وهويتها، لصالح الرؤية القومية العروبية. حيث يلاحظ في الأدبيات السياسية والثقافية الكردية، التركيز الدائم على أن تسمية سوريا ب»الجمهورية العربية السورية« هي تسمية محدثة، بينما بالأساس كانت «الجمهورية السورية»، حيث أن الاحتكار العروبي لسوريا منشأ حديث طرأ مع موجة القومية العربية. كما يركز الاكراد على عبارة «لا مركزية» معتبرين أن ذلك وحده قد يزيل عنهم التهميش السياسي الذي طالهم بسبب وضعيتهم الطرفية الجغرافية والقومية منذ تكوين الدولة السورية. فإعادة توزيع السلطة في سوريا حسب الرؤية الكردية، يجب أن تكون في الأساس توزيعا بين الجماعات السورية ومناطقها.
طبعا يمكن تفسير منبع ذلك الخيال السياسي الكردي من عدة نقاط. فمن طرف ثمة حس عميق بأن الديمقراطية العددية لن تحصل لهم الحقوق الطبيعية المتساوية مع باقي المكونات القومية السورية، وبالذات المكون العربي؛ فنسبة العشرة بالمائة الديمغرافية التي يشغلونها، لا يمكنها ان تشكل ضمانة كافية في ظل دولة مركزية ومعرفة بالقومية العربية، حتى لو اجريت تلك الانتخابات بشكل يضمن التمثيل العادل لكافة الجماعات. كما أن تلك الرؤية تنبع اساسا، من انبهار بالتجربة الكردية العراقية، تلك التجربة التي حمت نفسها وحضورها بفضل اللامركزية العراقية وعبر إقرار التوافق القومي في الدستور العراقي الجديد، لا التغالب. وجزء غير يسير ينبع من رغبة الزعماء السياسيين الأكراد، بالحفاظ على حضورهم السياسي، من خلال خلق نوع من الإقطاعيات السياسية الكردية الخاصة ضمن الكل السوري.
على الطرف النقيض، فإن الجسم الغالب من المعارضة السورية ما يزال مأخوذا بالتشكيل والتعريف التقليدي للكيان السوري سياسيا. فسوريا لا يمكنها ان تكون إلا دولة مركزية محضة، تشكل العروبة مركز وعيها لنفسها. سوريا حسب هذه الرؤية، لا يمكن وعيها إلا بدلالتها العروبية الوحدوية، لذا فأن سوريا لا يمكنها تحمل أي عقد بين العروبة وغيرها. العروبة هي الأساس، والباقي لهم بعض الحقوق. وطبعا مرفوض تماما، انطلاقا من ذلك التبني، الإقرار بوجود أو تخيل أية جماعات سورية سياسية تحتاج لأي تعاقد، فالعروبة هي العقد/الضمانة؛ الذي يمكن ضمنه، الاعتراف ببعض الحقوق الخاصة للآخرين. وعلى نفس المنوال، فان سوريا لا يمكنها البتة أن تكون غير مركزية سياسيا، طالما هي الجهة المركزية في إقليمها الجغرافي ومجتمعها التاريخي. أي بشيء من المقابلة الذهنية يمكننا القول، سوريا في الخيال السياسي العام لقوى المعارضة السورية، هي سوريا المعرّفة والمبنية على شكلها البعثي. فجل التيارات السياسية المعارضة في سوريا لا تعيش تناقضا فكريا أو سياسيا على فكرة «جوهرية العروبة» ودورها المستقبلي المركزي والتكويني لسوريا المستقبل. هي على قلب رجل واحد في ذلك، ولا تباين بينها مثل موقفها المتلعثم من شكل الدولة، مدني أم علماني، برلماني أم رئاسي…. الخ. فلا يوجد في صفوف المعارضة السورية تيارات فكرية شعبية وحاضرة تتبنى الرؤية «الوطنية السورية» أو القومية السورية الاجتماعية أو الشيوعية الأممية، وربما هذا الانضباط الايدلوجي قد يشكل صعوبة بالغة في الصدام بين التطلعات الكردية و»غير الكردية» حول شكل الكيان السوري المستقبلي.
يبدو المعارضون السوريون مأخوذين بالنموذجين التركي والمصري لشكل الدولة المأمولة، لكن ما لا يعيه الخيال السياسي العربي في هذا المقام، هو درجة الهوة بين عمق حضور الدولة ومؤسساتها وتكونها التاريخي في المثال التركي، والترهل المتزامن في النموذج السوري، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى الآن. فباستثناء فترة حكم البعث، والتي أختصر فيها حضور الدولة بمؤسساتها العنيفة فحسب، فأن الدولة السورية كانت تعيش ضعفا كيانيا وحضورا هشا في الذات السورية العامة على مدى تاريخها المعاصر. فلا مؤسسات دستورية، ولا وعي وتصالح ايدلوجي جماهيري مع الكيانية السورية، ولا نخبة سياسية وطنية تاريخية. وعلى نفس المنوال، فأن الخيال السياسي العربي، لا يعي درجة الفصام بين التجربة المجتمعية التاريخية في مصر، وبين نظيرتها الأقل ألفة وتشابها في الواقع السوري، فثمة دوما وعي برؤية واجبة ومتخيلة عن هذا المجتمع السوري، لا رؤية معترفة ومتبناة بوعي، لحقيقة تناقضات المجتمع السوري وآلياته ومعاييره الداخلية.
ثمة «لا وعي» كردي بالشكل والتصور الممكن لسوريا المستقبل، نابع من إحضار نموذج سياسي جاهز واعتباره بداهة، لمجرد نجاحه في تلك الدول. ومن ثم الاندفاع لمحاولة تقليده سوريا، من دون إدراك للصعوبات التاريخية والجغرافية التي يمكن أن تحول دون تحقق ذلك. تلك الصعوبات غير المفهومة من قبل الأكراد، تغربهم أكثر فأكثر، مع التقادم الزمني وتضخم حجم «القضية السورية»، عن كل الجسم السياسي الوطني السوري. غربة يمكن رصدها بعبارات عميقة الدلالة تصدر عن النخبة السياسية الكردية «يجب أن يمنحونا.. ويجب أن نأخذ» وكأن ثمة من هو صاحب الدولة السورية ويستطيع أن يمنح، وثمة من هو مطالب وغير مركزي وأصيل ويجب أن يُمنح. مقابل هذا، فأن الخيال السياسي العربي يبدو ماضويا وبالغ الحذر ومحدود الأفق، يبدو متبنيا بغير وعي، للتركيبة والرؤية البعثية لسوريا، ويبدو في جزء منه، خاضعا للابتزاز البعثي التاريخي له. ذلك متراكب مع غياب التنوع الفكري/السياسي في أطياف المعارضة السورية، وغياب نخبة فكرية سياسية سورية تستطيع طرح ما هو أهم وأعمق من البرامج والرؤى السياسية الحزبية الضيقة.
ما تحتاجه سوريا المستقبل من نخبتها السياسية، الكردية وغير الكردية على حد سواء، هو مزيد من منح الواقع والمجريات السياسية من احترام، ووضع المتخيل السياسي جانبا. فكل خيال سياسي إما مبني على ماض آفل أو نموذج غير صالح، وكلاهما لا يتوافقان مع روح الثورة التي تعيشها سوريا.
المستقبل