صفحات الناس

صديقي الداعشيّ/ أحمد ندا

 

خارجاً لتوّي من علبة الحصار العائلي، وكل حمولة الأوامر والنواهي التي لُقّمت لي سنة بعد سنة في بلاد الجحيم الأرضي: السعودية.. سنة الجامعة الأولى، كلية طب الأسنان جامعة المنصورة.. أحمل أكثر من مئة كيلوغراما، وقائمة طويلة من المحاذير رددها أبي على مسامعي طوال إجازة الصيف، يومي الأول في الجامعة من دون أبي.. فقط أصداء نصائحه ووصاياه.

أتلفت حولي كمن يحذر أن يلقى من يعرف. قميصي ذو الألوان السبعة آت من ذائقة ثمانينية، لم أختره بل اختارته أمي. في الحقيقة لم أختره ولا غيره، لم أختر مجال دراستي، لم أختر مكانها، كنت أسير في الطريق العائلي كما رسموه لي.. الحرم الجامعي مكان واسع مقلق بحيواته المتعددة، أسير كالمسرنم إلى أن أدخل إلى كليتي: العالم الذي سيخصني لست سنوات مقبلة.

واحدة من تلك اللحظات يا محمد، عندما أرتبك، إما أن أعرق أو أدلق كلاماً غير مترابط أو مفهوم أو كلاهما. كان دخولي الأول متعرقاً بكلام متنافر: لحظة اجتيازي بوابة الكلية مشاهداً بنات يجلسون إلى جانب أولاد “من غير حيا ولا خوف”. تسمرت عيناي حتى أتاني أحدهم وسألني بغلظة “في حاجة يا كابتن؟” كدت أن أقع من الخوف والخجل.. الخوف والخجل يا محمد رفيقاي الدائمين. حمولة تربية وهابية أثقلتني كثيراً. حتى أتيت أنت وقلت لسائلي “لا مؤاخذة يا باشا ده سنة أولى”. بدوت ملاكاً ياعزيزي. مبالغاتي التي تعرفها وتسخر منها. قلت لي بصيغة آمرة كأننا تربينا معاً “بلاش تبان محروم كده وفلاح يا فلاح”. قلتها وضحكت وأنت تسحبني من يدي. كنت “أطول من اللازم”، كما عرفتك بعدها، طويلاً خفيف الظل. تحبك بنات الكلية ولا تبالي بهن. يحبك الأولاد رغم زملكاويتك الفخورة. كنت أمشي إلى جانبك محاذراً أن ترى جزعي من البساطة في التعامل مع الناس. لم أكن بسيطاً، ولم أعرف أن أكون بعد ذلك:

*إسمي أحمد ندا، أخدت الثانوية العامة في السعودية، وحافظ القرآن.

-ما شاء الله، أنا محمد موسى، أخدت ثانوية عامة من هنا، وحاولت أحفظ القرآن وفشلت

*حفظه سهل، بس إنت إنوي

-يلا البركة فيك.. بقى تحفظه لي

أعلنت عن أحلامي دفعة واحدة أمامك بعدها. حدثتك عن الدين السعودي وثقله، عن محبة أبي لحسن البنا، عن حسن البنا، حدثتك كثيرا عن الجحيم الذي عشت فيه، عن البنات اللواتي أشتهيهن. حدثتك وقررت أنت أن تكون مفتاح خروجي من ثقوبي النفسية. كنت أول أصحابي، فيما مضى لم أعرف أحداً ولم يعرفني أحد. حدثتك عن الشعر وأسمعتك كل قصائدي، كلها وأنت تعرف كيف تسخر منها ومني. نظرت إليّ بملامة عندما عرفت أنني أهلاوي صميم، وسامحتني لما عرفت حبي لريال مدريد، حبان لا يجتمعان، لكنه حدث معي.

فتحي، وليد، عبد الخالق، مصطفى، سالم، عاطف، شكري، عرفتهم كلهم من خلالك أصدقاء السنوات الست. أيام المصيف في رأس البر أو الإسكندرية. البنات اللواتي أحببناهن وبكيناهن معاً. المقالب التي أتقناها في الآخرين وفي أنفسنا. أسابيع كاملة قضيناها في بيتك ندرس لامتحانات نهاية العام. وكنا نعجب كيف لمخلوق مثلك أن يكون بهذا الذكاء ولا طموح لديه في التعيين بالجامعة. “موسى فاخلع نعليك”. قلناها لك كنكتة إلهية كلما رأيناك تجري في الشارع حافياً وراء أحدنا، بعد واحدة من تلك المقالب.. هل تذكرها؟

أحد عشر عاما يا محمد بين ما أحكيه وبينك اليوم، أتصل بأحد أفراد “الشلة” من عدة أيام، لأسأله عنك وكل أرقامك خارج نطاق الخدمة. يتردد ويسرد كلاماً عن وقائع حدثت له ولآخرين ألحّ في السؤال عنك، فيقول “موسى خلاص، سافر انضم لداعش”. يقولها دفعة واحدة ويغلق الخط. داعش ياصديقي؟ ماذا أصابك يامحمد؟ لماذا؟ لماذا؟

كان آخر لقاءاتنا درامياً أكثر من اللازم. لحيتك فائرة كأفكارك، كلامك لا يشبه كلامك الذي أعرفه، الكلام عن كفر المجتمع ومحنة الإسلام ووجوب الجهاد ظننته حماساً يشبه حماساتك الكثيرة لمشاريع لا تتم. تركتك غاضباً بعدما اتهمتني بالكفر، لم آخذك على محمل الجد. “طيب ياخويا روح انضم للقاعدة”. هكذا كنت أسخر من كلامك. لو كنت أعرف أنك ستنضم إلى أعداء الحياة هؤلاء، لبقيت معك أجادلك حتى يقع لساني من الإعياء، وما تركتك غاضباً منك على رؤيتك لي ولأصدقائنا “الكفار”.

أنت ذاهب إلى حيث هربت أنا يا صديقي. آثار التربية الوهابية ما زالت موشومة على قلبي وروحي المنهكان من حمولة لا يطيقها إنسان يحب أن يعيش. أنت ذاهب إلى دين يكوي جلدك، ويدمي عيونك لأن رباً –يخصهم- يحب الدماء، الكثير منها.. كيف وقد حكيت لك ما لم أحكه لغيرك؟ كيف تنزعني وأصحابنا من قلبك لقاء جزاء محتمل؟

تعرف دون غيرك أنني لم أشف إلا على يديك. هل أرثيك أم أودعك أم أنساك يا صديقي؟ وقد رميت حياتك في سلة مهملات كبيرة اسمها الفريضة الغائبة. تردد اسم “داعش” كثيراً أمامي ولم أهتمّ. تعرف نفوري من السياسة بوساخاتها، أسمع أخبارهم وأعجب أن مثل هؤلاء موجودن بيننا، اليوم تأتيني داعش في عقر داري وفي صميم قلبي لتنزعه.كم من بيوت دخلتها دون أن تطأها وقلوب أدمتها من دون أن تعرفها هذه “الداعش” السرطانية..

مع السلامة يا محمد.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى