صفاقة الإمبريالية… أمريكية أكانت أم روسية/ جلبير الأشقر
يذكّرنا نمطٌ من الأنماط المميّزة للإمبريالية في عصرنا بذلك الزجّاج الذي مثّله تشارلي تشابلن في إحدى روائعه السينمائية الصامتة، فيلم «الولد» أو «الصبي» (The Kid)، وهو زجّاج يستخدم صبياً مكلّفاً برمي الحجارة على نوافذ المنازل لكسر زجاجها بحيث يخلق للزجّاج فُرَصاً لكسب الرزق.
فلمّا قامت الولايات المتحدة سنة 1991 بإرجاع العراق إلى العصر الحجري، حسب التعبير الذي ورد آنذاك في تقرير موفد مجلس الأمن الدولي، وذلك بتحطيم بنيته التحتية على أوسع نطاق، كان أصحاب شركات المقاولة والبناء الأمريكية يفركون أياديهم تحسباً لنيل شركاتهم القسط الأكبر من سوق إعادة بناء العراق المدمَّر. وفي انتظار استكمال شروط تلك العملية، استفادت الشركات المذكورة من إعادة بناء الكويت التي دمّرها «التحرير» الأمريكي أكثر مما دمّرها الاحتلال العراقي. ولمّا توفّر الظرف السياسي الملائم، بفضل أسامة بن لادن وعمليات 11 أيلول/ سبتمبر الإجرامية، كي يستكمل جورج دبليو بوش ما بدأه والده من تحطيم للعراق تمهيداً لاحتلاله، كانت الشركات ذاتها تتلذّذ بالتفكير بالأرباح الطائلة التي سوف تجنيها من إعادة بناء البلد المنكوب.
وقد تكرّر المشهد ذاته عندما قامت طائرات الحلف الأطلسي بقصف ليبيا وإشاعة التدمير فيها فوق ما دمّره مجنون ليبيا ذاته، فكانت شركات المقاولة والبناء الأمريكية والأوروبية، ولا سيما الفرنسية والإيطالية والبريطانية، تحثّ حكومات بلدانها على التأكد من ضمان حصتها في سوق إعادة البناء المرتقبة في ليبيا.
والحال أن العراق وليبيا بلدان يتمتّعان بثروة نفطية عظيمة تجعل منهما زبونين على درجة عليا من الاقتدار وتجعل من سوق البناء فيهما سوقاً بالغة الجاذبية، شأنهما في ذلك شأن الكويت وشأن دول مجلس التعاون الخليجي برمّتها (طبعاً، من باب البناء وليس إعادة البناء في حالة الدول الأخيرة). لكنّ الرياح جرت بما لم تشتهِ سفن المقاولين، فالعراق وليبيا غرق كلاهما في انعدام خطير للأمن، جعل كلفة عمل الأجانب فيهما باهظة لشركات مضطرّة قانونياً إلى تأمين عمّالها.
وها أن الإمبريالية الروسية تلعب اللعبة ذاتها بدورها. فبعد أن ساعدت آل الأسد على تحطيم سوريا بمدّهم بسلاح الجوّ وغيره من وسائط التدمير، انخرطت مباشرة في عملية التحطيم محققةً فيها نقلة نوعية بتدخّلها العسكري المباشر منذ أيلول/ سبتمبر 2015. وتمتّعت روسيا بتدمير سوريا بطائراتها وصواريخها مثلما فعلت واشنطن في العراق، بل بصورة أشرس إذ أن الأمريكيين حاولوا الحدّ نوعاً ما من إسقاط الضحايا بين المدنيين خشية من الرأي العام في بلادهم بخلاف نظام فلاديمير بوتين السلطوي الذي كمّ أفواه معارضيه.
وقد حرصت موسكو على ضمان حصول شركات المقاولة والبناء لديها على «حصة الأسد» (والتعبير مناسب جداً في هذا الصدد) في سوق إعادة بناء سوريا المرتقبة. ففي نيسان/ أبريل من السنة الماضية، وقّعت موسكو ودمشق اتفاقات خاصة بإعادة إعمار سوريا بمبلغ إجمالي ناهز ملياراً من الدولارات. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، زار سوريا للغرض نفسه نائب رئيس الوزراء الروسي، دميتري روغوزين، فكانت زيارته مناسبة كي يصرّح وزير خارجية آل الأسد، وليد المعلّم، أن روسيا سوف تكون لها الأولوية في عقود إعادة بناء سوريا (حسب وكالات الأنباء السورية والروسية).
بيد أن سوريا ليست دولة نفطية غنيّة، وفقرها بالذات سببٌ رئيسي لقلّة اهتمام الولايات المتحدة بمصيرها إذ لا ترى فيها كنزاً يستحق القتال من أجل وضع اليد عليه. وبالطبع، لا تنوي روسيا بتاتاً تكرار ما فعلته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عندما موّلت إعادة بناء أوروبا بضخ الرساميل فيها من خلال «خطة مارشال». فروسيا دولة إمبريالية فقيرة نسبياً (سبق أن ذكرنا أن الناتج المحّلي الإجمالي الروسي كان دون ناتج كوريا الجنوبية بأسعار السوق في عام 2015)، وحكمها أبعد ما يكون عن الإيثار والتفاني من أجل الغير على حساب النفس، شأنه في ذلك شأن أي دولة إمبريالية (كانت «خطة مارشال» في جزء منها تمويلاً حكومياً أمريكياً لتمدّد الشركات الأمريكية في أوروبا).
فما كان من موسكو، وقد بدأت تسعى وراء تحقيق «سلم روسي» في سوريا على غرار «السلم الأمريكي» الذي تعمل واشنطن على فرضه حيثما تيسّر لها، ما كان من موسكو سوى أن طلبت من الدول الغربية تمويل إعادة بنائها لسوريا! فقبل أيام، جمع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، سفراء دول الاتحاد الأوروبي في موسكو ليحثّهم على الاستعداد لتمويل إعادة إعمار سوريا، مؤكداً على أن الأمر سوف يحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات وأن روسيا لن تدفع شيئاً في سبيل ذلك المجهود (نقلاً عن صحيفة «فايننشال تايمس» في 23 شباط/ فبراير).
خلافاً لزجّاج تشارلي تشابلن، تقوم الدول الإمبريالية بتحطيم النوافذ بأياديها مباشرة، قبل أن تفرض على أصحاب المنازل تمويل تركيبها لنوافذ جديدة. وفي حالة الإمبريالية الروسية في سوريا، وصلت الصفاقة إلى حدّ طلبها من المنافسين الإمبرياليين أن يتولّوا هم تمويل إعمارها لما خرّبته بيدها.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي