صناديق تنزُّ دماً/ سعاد قطناني
بعد سنين طويلة من القهر والتعب نهضت الشعوب العربية تبحث عن نفسها، عن هويتها وجوهر وجودها، فوجدت أنفاسها متقطعة، جسدها منهك يعيش حالة احتضار، قاومت الأمراض المزمنة من ذل وقهر وقامت كالعنقاء من الرماد شعوب حية، أيقنت في لحظة فارقة من تاريخها أنها تريد تذوق حياة الحرية والكرامة، ولا شيء سوى تلك الحياة. قاد الغضب والسجن والقهر والموت الشعب إلى الشوارع، نهض الشعب من سبات التاريخ، من ثبات الهوان ورتابة الموت، دخل في سباق الحياة مع التاريخ والمستقبل، فهو شعب يحب الحياة ويريدها بكل أسبابها. أما الطغاة فلهم ألف حكاية وحكاية عن المؤامرة ضد الوطن، عن الظلاميين الذين جاؤوا ليغرقوا الوطن بالخوف، عن الدسيسة والمندسين، عن الخراب والعبث القادم، حاولوا أن يثبتوا معادلة الموت والخراب، إما هم وإما الموت، حاولوا أن يجعلوا من وجود الشعوب فائض وموتها عبث، فلا هي تصل الحرية، ولا هي تحلم بالحياة، ومن أجل ذلك خلطوا الأوراق، وأخذوا يفبكرون حكايات ممجوجة، فصيّروا الباطل حقا والحق باطلا، وحصروا الشعوب بين خيارات أحلاها مر حتى ارتفعت الأصوات اليائسة لتقول كان بإمكاننا العيش ـ في ذلنا- مئة عام أخرى وماذا يضيرنا، إذا كان البديل كل هذا الموت والخراب! وبهذا صارت الطريق أطول والثمن أغلى والحرية أبعد…
هي معادلة حاول تكريسها هواة الظلام وكل الخفافيش التي اطلقوها لتنقرعيون الصباح وتمتص دماء الأحلام كي يتكرش الليل ويتخم الظلام بألف عدو وعدو ليطفئوا بصيص شمعة لاحت لأنهم لا يريدون لهذا الليل أن ينتهي.
بعد أن عاشت الشعوب العربية مئات من الأعوام في زاوية التاريخ وعلى هامش الحياة تلملم أنفاسَها من فتات سقط سهواً من الموت والخوف، بعد سنوات طويلة من السير إلى الوراء كانت تحلم فيه الشعوب بصباح بلا قضبان، وجدت أحلامها تُرمى في أبدية الزنازين.
فبعد الثورة العربية الكبرى، أكثر اللحظات سطوعاً في كتب التاريخ العربي الحديث، كانت معاهدة سايكس بيكو، وبعد سنين كانت حبلى بالفكر التنويري والتلاقح الحضاري بين الشعوب، غرقنا بالسلفية والسلفيين، وبعد سنين من تضخم الهالة التي أحاطت بحركات التحرر الوطني تربعت الديكتاتورية على صدر الصباح وأغلقت منافذ الهواء والماء والحرية لقتل قيمة الإنسان في الإنسان، فوجدت الشعوب العربية نفسها تمضغ جوعها وعوزها، تبتلع ذلها، تفيق وتنام على الليل، تولد وتحيا وتموت على مجد قائد لا يموت، كأن الحياة هي فصل من فصول أسطورة عذاب سيزيف الأبدي وعبثية عمله، فهم سيزيف الذي يحمل صخرة عذاباته إلى جبل لا يقود إلا إلى بؤسهم، بل هم الصخرة التي تتدحرج إلى الهاوية، لا لكي تصل بل لتعود وتتدحرج من جديد، فيحيون حين يخطأهم الموت والسجن والسجان، حين تخطأهم الكوارث المسجلة باسم الفقراء في هذه الأرض.. فمن محنة إلى كارثة إلى مصيبة فنكبة فنكسة.
في هذه الأيام، شهدنا ومازلنا نشهد حمى الانتخابات في أكثر من بلد عربي من الجزائر إلى لبنان والعراق ومصر وسورية.. تدور رحى هذه الانتخابات على مرجل من الخوف أحياناً، ونار وقتل أحيان أخرى، وفي أحسن الأحوال بتشكيك ومحاصصة طائفية، وسورية هي المثال الأكثر وضوحاً وتجلياً لذلك العبث والخلط بين الحرية والموت، بين ألعاب الأطفال المنثورة على أرصفة الموت وصناديق ينز منها الدم وتُسمى بصناديق الانتخابات، فعلى وقع رصاص يئز ودبابات تقصف يرقص الهتافون في طقس فرح مخيف أشبه بالجنون الأعمى على نهر من دماء لانتخاب بشار الأسد تحت شعار ‘سوا أقوى’ الذي يملي علينا إزالة ‘أو’ من شعار ‘الأسد أو نحرق البلد’ واستبدالها بواو ليصبح الشعار أكثر انسجاماً مع الجمع ويتحول إلى ‘الأسد ونحرق البلد’، و العجيب هنا أن ‘الانتخابات’ الحامل الرئيسي للديمقراطية تصبح من أشد الوسائل فتكاً بالمشروع الديمقراطي والتحرري في البلاد العربية، فكانت مثل ‘الكي هو آخر الدواء’ في قمع الديمقراطيات، وهي محاولة لتكريس وتثبيت الوضع الذي كان قائماً قبل الثورات العربية وعن طريقها يتم لجم أحلام الشعوب العربية وإعادتها إلى حظيرة الحاكم المطلق والرعية والعصا وهكذا تعيد الانتخابات الطغاة إلى سدة الحكم ‘ويا دار ما دخلك…ثورة’!
وأمام هذه الحالة، حصر الطغاة المواطن العربي الذي ينشد التغيير بين خيارات صعبة حد المستحيل، فإما أن يذهب المواطن العربي صاغراً لـ’انتخاب’ الطاغية ويرضى بالبسطار العســـكري حاكماً كمعادل لـ’الأمن’، أو أن يعيش تحت وطأة جماعات إرهابية تقتل وتفتك وتغتصب وتعيد البلاد ألف عام إلى الوراء، أو أن يكمل طريقه في طلب الحرية والكرامة بفاتورة أعلى وتضحيات أكبر.
صحيح أن مستوى قمع الثورات ووسائله يتباين من بلد إلى آخر، ولكنه يتشابه في وضع المواطن العربي بين خيارات تتساوى والموت ولا ترتبط بأي شكل من الأشكال مع ثورته التي قام بها ضد الطغيان والفساد والفقر والقمع. لا أعتقد أن الشعوب التي شقت عصا الطاعة قامت بالثورة لتستبدل أصفادها بالبسطار، أو استبدال الطاغية بآخر، أو تستبدل أوطانها بمناطق طائفية معزولة، أو تدخل في حروب ‘الردة’، أو تستدعي التدخل الأجنبي. ولا يمكن لمن قدم كل هذه التضحيات أن يشارك في انتخابات المهزلة.. فهذه الشعوب قامت بالثورة كي تسير إلى المستقبل تحمل إرث حضارة الشرق العريق وتمضي إلى الأمام.
وباتكائنا على حركة التاريخ وما تبقى من أمل هل يمكن القول إن عصر الطغاة سيمضي بغير رجعة؟ هل يدل على انتهاء فصل الطغاة ذلك الشفق الأحمر الذي يفصل الليل عن النهار؟ بالتأكيد نعم، فالطغاة وحدهم، بطغيانهم، بالقتل الذي جعلوه مرتبطاً بوجودهم، بعدم حساسيتهم لخطوط الغضب الذي يعتري قلب شعب فقد كل أسباب الحياة، بسبب السجون التي غصت بالمظاليم والقتلى، بالمدن المختنقة بريح الموت، بسبب كل المآسي التي سببها وجودهم.. وبغبائهم سيدفعون بالتاريخ ليسير بهم إلى نهاياتهم المحتومة.
فإن كان العرب في السنين التي مضت يعيشون موتهم، ألم يحن عصر ولادتهم الجديدة الآن؟
كاتبة سورية
القدس العربي