صفحات الرأي

صناعة التفاؤل/ فاروق يوسف

 

 

كن متفائلا يا أخي. غالبا ما يصفعني آخرون بهذه الجملة باسترخاء، كما لو أنهم يكشفون عن أحد عيوبي الأخلاقية. ولأنهم يفترضون أنني سأكون في حال من الدفاع، وقد هاجموني بغتة وبهدوء وتمكن، فإنهم يتوقعون أنني سأجيبهم بطريقة تشي باستسلامي، فأردّ: ولكنني لست متشائما إلى الدرجة التي تظنون. نعم أنا متشائم قليلا لكنني لا أكره المجتمع ولا أكره قبله نفسي.

التشاؤم، من وجهة نظر المتواطئين مع الواقع اللاواقعي الذي نعيشه، صار تهمة هي أشبه بالشتيمة. غير أنهم في المقابل لا يقولون مثلاً: تعال وأنظر من النافذة التي ننظر من خلالها لترى أمورا تسرّك. أعرف أن لا وجود لمثل تلك النافذة. هم يعرفون ذلك أيضا. فقط ينحصر الموضوع في أنهم لا يرغبون في قول ما يعرفونه. يقول لك أحدهم في لحظة صراحة نادرة: أنا أعرف أن كل ما تقوله صحيح،

لكنني لا أريد أن أصدقه. أصدق فقط أن الوضع سيكون أفضل. أليست هذه حيلة من شأنها أن تسوغ الخيانة؟ أتساءل أحياناً، ما الذي يكسبه المواطنون العرب (هم ليسوا كذلك بالتأكيد بعدما فقدوا حق المواطنة) من عدم الاعتراف بأنهم يعيشون في أوضاع هي الأسوأ في تاريخ الإنسانية؟ ليس سوى التآمر على الذات ما يدفع المرء إلى القبول بعبوديته على هذا النحو. يعاني المرء في العالم العربي كثيرا من أجل أن يبقى حيا. هناك قوى كثيرة تطارده. قوى يعرف أنها تترصد فشل محاولته في النجاة لتقتله. لذلك يعتقد الكثيرون أنهم في وضع ملكي إذا كانوا يعيشون في منأى من القتل المجاني. لقد قتل مئات الالوف في لبنان وسوريا والعراق بطريقة مجانية هي أقرب إلى القتل غير المقصود. صار على المرء أن يشكر ربه وزعماء الأحزاب وأمراء الحروب والنواب في البرلمان والمجاهدين من حملة الرايات السوداء والصفراء والخضراء لأنه لم يعد مهددا بالقتل على الهوية. إنها نعمة تغرق الفم برغوتها. لقد توقفت حلب عن انتاج صابونها المفعم بالزيتون وأوراق الغار من أجل أن تؤكد أن كل شيء في حياتنا كان نظيفاً، وسيظل كذلك. لذا كان الموت نوعاً من النظافة. “كل نفس ذائقة الموت”. يتأخر أحيانا عزرائيل لكنها ليست القاعدة. نحن نموت شباباً كالفراشات. نرى شروق شمس وقد لا تتاح لنا فرصة حضور غروبها. لذا يجوز لـ”حزب الله” أن يجر شباب اللبنانيين كالخراف إلى مذبحه في سوريا. كما يجوز لـ”داعش” أن يفخخ شباباً مكبوتين جنسيا من أجل أن تكون لحظة انفجارهم عرساً يجمعهم بسبعين حورية عذراء. ينبغي لي، من أجل أن ابدو متفائلاً، أن أذهب إلى أقرب مخزن للعبوات الناسفة لأثبت خلو جسدي من ميكروبات التشاؤم الذي هو عدو الأمة. حينها فقط تبدو مواطَنتي ممكنة. مبتسما في صورتي، كما لو أنني لم أغادر الحي ولم أغدر بالعائلة، سألوّح للجميع.

ما معنى التمام وسط الكارثة؟

أتصل بصديق قديم في بغداد لأطمئن عليه وأواسيه بسبب الكارثة التي يعيشها البلد، فيقول لي: كل شيء تمام! اغلق الهاتف. ما معنى هذه الـ”تمام”؟ هل صار عليَّ بسببها أن أعتبر وطني مستشفى للمعتوهين؟ في كل المقاييس العلمية، العراق هو بلد منكوب. يقول خبراء الاقتصاد إن ما يزيد على الترليون دولار كان قد أهدر خلال السنين العشر الماضية، وهي السنوات التي أعقبت الغزو الاميركي، من غير أن تبنى مدرسة ولا مستشفى ولا روضة أطفال ولا مكتبة ولا مسرح ولا بيت للإيتام ولا معمل، في الوقت الذي استمرت فيه البنية التحتية في الانهيار، فلا كهرباء ولا ماء للشرب ولا مجارٍ للصرف الصحي. فبأيّ طريقة يمكنني أن أصرف تلك الـ”تمام”؟ لقد سلمت البلاد قيادها للميليشيات وصارت العمائم هي التي تحكم، في ظل انتشار وباء الفساد الذي تخطى بعفنه الحكومة إلى المجتمع. حين يعم الفساد، تستقيم المعادلة. في لندن كان أحد المعممين يلقي محاضرته عن العراق الجديد، فسأله أحدهم: ولكنكم نهبتهم ثروات البلاد، بماذا تفسر ما جرى؟ لم يُستفَز المحاضر، بل أجاب بكل هدوء: إنه حقنا الذي لم يفهمه الكثيرون. أننا نقبض ثمن تضحيات أجدادنا منذ الف واربعمائة سنة. كيف يستوي هذا القول مع تلك الـ”تمام” المعتوهة؟ إنني ابتسم لسذاجتي. هناك مَن يقول: دعهم ينقرضون بالطريقة التي اختاروها بأنفسهم. لم يجبرهم المحتل على المشي وراءه. يروي أحد المتواطئين مع المحتل أنه كان يعجب لمشهد الطوابير الطويلة من الشباب العراقيين الذين كانوا يعرضون خدماتهم على المحتل وقوفاً عند باب السفارة الاميركية ببغداد. لقد صدمه استعداد الآخرين للخيانة فذكّره بخيانته.

ألا ترى المزابل من حول بيتك؟، سأل الصحافي الاميركي نوري المالكي يوم كان رئيسا للوزراء. فابتسم زعيم “حزب الدعوة” له وقال: أنا لا أنظر من تلك النافذة. ربما كان الرجل الذي أغرق العراق في مستنقع الفساد يفكر في الحسين. هذا ما يفعله بالضبط حسن نصر الله حين يوفد شباباً يانعين إلى الجنة بعد أن يُتموا مهمتهم في القتل، من غيرأن ينظر إلى حارة حريك المندثرة بسكانها. المزابل التي صارت دولة مثل أسوج (السويد) تستوردها، هي المنجز الوحيد الذي تمشي به وبنا الأحزاب الدينية إلى المستقبل. مستقبلنا في حقيقته، هو عبارة عن مزبلة كبيرة. لا شيء ينفع مما نقول أو نفعل. في كل ما نفعله وما نقوله، انما نساهم في إغناء تلك المزبلة بمفرداتها الرخيصة. لقد أتيحت لـ”حزب الدعوة الإسلامي” فرصة ذهبية في أن يحكم العراق (لا يزال يحكم) فماذا فعل؟ سؤال يجد جوابه لدى “حزب الله” اللبناني الذي حين استقوى حرمان اللبنانيين من فكرة وجود رئيس لجمهوريتهم الخرافية.

شعوب رمزية كما لو أنها لم تعش

نحن تحت. ولكن أين يقع ذلك الـ”تحت”؟ هو يقع بالتأكيد تحت قدمي الفقيه. تحت أقدام السياسيين الذين صار الكثير منهم يفخر في أنه منتخَب من قبل الشعب. لكنها كذبة فضحتها هزيمة جماعة “الاخوان” في مصر. نحن والديموقراطية جيران. يُفضَّل أن نبقى كذلك. سيقول المتفائلون كلاماً غير ذلك. من غير ثرثرة مضللة، الديموقراطية الكاذبة لا تنفع. أما كان القذافي بكل سلوكه التافه صمام أمان بالنسبة إلى الليبيين؟ صار علينا أن نفكر في الطريقة الحوثية من أجل ابتلاع بلد. سوريا المسكينة لم يعد فيها شيء يفخر بأنه صناعة سورية. حتى البشر الذين يقاتلون، فإنهم مستوردون. في آخر القائمة يقف السوري منتظرا نهاية الفضيحة التي ستسلّمه بلداً لا يصلح للإستعمال. تاريخياً يقال إن بني أسد حملوا جثة الحسين ودفنوها قبل أن يعبث بها صبيان يزيد. أهناك مَن يدفن جثثنا وقد صارت مادة يومية للدعاية؟ أعتقد أن المدافن تضحك منا. فمن غير المعقول أن يذهب الأحياء بأقدامهم إلى القبور. في مصر وحدها هناك خمسة ملايين أو أكثر من البشر الأحياء يسكنون المقابر. هل علينا أن نذكّر بأن ثلث سكان العراق يقعون تحت الفقر، أما اليمنيون فإن اثنين من ثلاثة منهم يعيشون على الاعانة الدولية. الآن صار الثلاثة ينتظرون الغذاء المعلب. نحن بخير إذاً، وكل شيء تمام. ولكن ما نفع الحكومات؟

في الجزء الخاص بمنطقتنا، صارت الحكومات تتخذ وجودا رمزيا. شأنها في ذلك، شأن حكومة الصومال التي تحكم في مقديشو. كل شيء صار رمزيا. الشعب هو الآخر صار كيانا رمزيا. هو رمز لشعب كان قد ضُحّي به وهو يرفل بسعادته مشرداً ولاجئاً ونازحاً ومهجراً. بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة… لقد كُتب الكثير من الاناشيد من أجل أن يكون الذل ممكنا والكآبة حلاً. البلاد العزيزة هي من يدفع فيها سياسيوها مواطنيها إلى الإقتتال في ما بينهم من أجل أن يتفرغوا لسرقاتهم العظمى. ولإنهم كانوا محظوظين حين وجدوا رجال الدين جاهزين في خدمتهم، صاروا رسل الدين الجديد؛ دينهم المعني بمشكلات الماضي، وهي مشكلات تاريخية لم يتفق الرواة عليها. لقد قيل الكثير عن سقيفة بني ساعدة. ولكن هناك مَن يؤكد أن اجتماعا في تلك السقيفة لم يُعقد. سخف الفكرة يكمن هنا. إن اجتمعت قريش أم لم تجتمع، هل كانت تفكر فينا؟ لو اختير أحد الحاضرين في السقيفة محافظا لبيروت، هل كان يرضى بمشهد نفاياتها التي صارت أشبه بأعمال فنية ما بعد حداثوية؟ هو بالتأكيد لم يسمع بأسطورة سويسرا الشرق، غير أنه كان عارفا بأن النظافة من الايمان.

من جهة توجيه اللوم كله إلى الصومال، أعتقد أننا كنا مخطئين.

مقديشو ليست بيروت وهي ليست بغداد ولا دمشق ولا القاهرة. للتاريخ مقاييسه، لكن السياسيين يتحدثون عن الصوملة. هم دهاة وسفلة في الوقت نفسه. فما الذي يعنيه الصومال بالقياس إلى لبنان أو العراق أو سوريا؟ لكن شعبا يرغب في صوملته يليق به أن يكون صوماليا. كلنا صوماليون. صرنا صوماليين كما نحب. هل رغب الاستعمار في صوملتنا؟ فجأة نكتشف أننا كنا صوماليين بالغريزة ولم تكن العروبة إلا ضيفا طارئا. لا يهم كل الأبجد هوز الذي تعلمناه. الصوماليون يكرهون العربية، بالرغم من أنهم يقرأون القرآن. كان الشاب الأفريقي الملتحي الجالس إلى جانبي في الطائرة المتجهة إلى الدار البيضاء يقرأ في القرآن. سألته: هل تجيد العربية؟ أجابني بالانكليزية “نو” ولأنه من غانا لم يكن يعرف أن كثيرا من العرب لم يكن يجيد العربية. الكثير من العرب هم في الحقيقة أفغان أو ايرانيون من حيث أهواؤهم. نحن شعب فاشل في انتمائه. تضحكنا صوملتنا، ولكننا ألبسنا نساءنا لباسا أفغانيا وتركنا لملالي ايران حرية أن يتحكموا بطريقتنا في نطق لغتنا.

البراءة من المستقبل

لم يعد هناك احد يعدنا بشيء. سياسيونا اليوم هم أصغر من أن يحدثونا عن المستقبل. لا اشتراكية. لا رفاهية. لا حرية. لا مواطنة. لا وحدة وطنية. نحن شعب عالق في الخدمات الأساسية من أجل أن يكون العيش ممكنا. لقد هبط السقف حتى صرنا نمشي تحته بظهور منحنية، غير أن ذلك الهبوط لم يكن في مستوى ما توقعه منا السياسيون من تضحيات. قريبا سنصل إلى مرحلة الزحف، من غير أن نأمل في أن يظهر السياسيون نوعا من الفهم لأحوالنا. صرنا حشرات. وهذا يعني أننا عدنا إلى الوضع الطبيعي الذي كان سياسيونا ينظرون إلينا من خلاله. كائنات لم تصل بعد إلى مرحلة اختراع اللغة التي تعبّر من خلالها عن مشكلاتها. سنكون هدفا للصيد إن لم نكف عن الحركة. هناك بنادق جاهزة للقنص. لا أحد يفكر في الملايين التي سلّمت أمرها لسياسيين هم مجموعة من اللصوص والأفاقين وقطّاع الطرق لم يرهم تاريخ البشرية مجتمعين إلا على جثثنا. ما من جرس للخلاص. إن قرعناه، فإن أحدا لن يسمعه. نحن في الحضيض. لسنا في حال تؤهلنا للتفكير في المستقبل. سيكون المستقبل خراء حاضرنا ليس إلا مثلما كان حاضرنا هو خراء ماضينا.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى