صناعة الكراهية: العنف المقدس تجاه الآخر المدنَّس/ غازي دحمان
سؤال طالما يجري طرحه دائما في يوميات المشرق، الغارقة في قتال عبثي لا أفق واضحاً له: من أين تأتي الجبهات بكل أولئك المستعدين للموت من دون التوقف لحظة وسؤال أنفسهم عن المغزى من وراء سوقهم إلى هذا المآل، بل لمَ هم مندفعون إلى هناك؟،
دع عنك كل ما يقال عن سحر الأيديولوجيا وتأثيرها الكاسح، حتى الدينية منها، فثمة محددات يمكن لهذه الأيديولجيا عدم تجاوزها، تأتي من صلب تلك الأيديولوجيا نفسها، وبخاصة تلك المتعلقة بالجانب الإيماني الذي يضع قواعد للحرب والسلوك أثناءها، وهو كلام ليس نظريا وقد إلتزم فيه السنة والشيعة في حروبهم مع من يفترض أنه العدو اللدود «اليهود«، من عمليات تبادل للأسرى وجثث المقاتلين، ولم يحصل في تاريخ الصراع بين الطرفين أن جرى التمثيل والحرق والتشفي الحاصل بين هذه الاطراف نفسها اليوم.
الأيديولوجيات غالبا ما تركز على البعد الاخلاقي، سواء الخاص فيها أو الموجود لدى نظائرها، أو الأيديولوجيات المنافسة، وبالتالي فإنها تصمم أحكاما معيارية تنصب على ثنائيات الخير والشر والقبيح والحسن. وهذه بحد ذاتها لا تكفي لإنتاج العنف ولا لإدامة الحروب، ذلك أن كل مجموعة بشرية تنظر الى نفسها على انها صاحبة الخير المطلق والجمال المطلق، ولم يكن ذلك سببا لتجريد الحروب والحملات على الشعوب التي لديها قيم ومعايير مختلفة.
ذلك يدفعنا إلى البحث عن مناهج تفسيرية أخرى لفهم هذه الظاهرة على حقيقتها من دون التلطي خلف شعارات مضللة وزائفة. ولا شك أن الحقل السياسي هو الأقدر على إنتاج المفاهيم التي يمكنها الإحاطة بحقيقة الصورة وما تتركب منه من عنف وقتل لا يرحم.
لقد ذهب صناع السياسة في الإقليم، بمن فيهم من مراكز سلطوية وأمراء حرب وزعماء ميليشيات، وبعد أن تبين لهم أن الحرب مديدة ولن تكفي عدتهم الأولية من جيوش وأسلحة لحسمها، إلى اللجوء إلى النطاق الذي يضمن لهم استمرار ديمومة دينامية الصراع رغم معرفتهم أنها تمثل حالة اللعب على الحافة للجميع، وأن إفرازاتها ونتائجها ستكون كارثية وتفوق حتى ما تخيلوه، وهو صناعة الآخر المختلف في المضمون والشكل.
وفي هذا الإطار جرى تركيز معظم الفعالية لإثبات حقيقة وجود آخر مختلف من حيث الكينونة ومغاير تماما لطبيعتنا، حتى انه كائن من خارج التعريف البشري. لذا من السهل العثور في الخطاب السياسي لدى أطراف الصراع على صفات ومكونات لا يحتملها عقل، عن ذلك الآخر المختلف، من أجل تبرير كل فعل تجاهه وعدم السماح لوجود حتى إمكانية الرحمة أو التراجع عن إبادته تحت أي ظرف. هذا الخطاب ينطوي على تجريد الطرف الأخر من صفته البشرية والتي يمكن إعتبارها في هذه الحالة مجرد صفة عابرة أو لزوم ما لايلزم تنفيها الصفات القبيحة الأخرى المرافقة لها، والتي يجري صناعتها في مختبرات الإعلام والمخابرات.
المرتكز الثاني في هذه الهندسة الهادفة إلى صناعة الكراهية، إعتبار الطرف الاخر يمثل تهديدا وجوديا لنا وذلك لمجرد إستمراره في الحياة وممارسة نمط حياته العادية هي خطر على وجودنا وبالتالي فإن قتاله وإجتثاثه يصبحان مسألة دفاع عن الوجود بالدرجة الاولى، وليس قضية مرتبطة بمجرد إختلافه عنا في القيم والأخلاق.
إذاً هي السياسة بالدرجة الاولى من يقف وراء هذه الحدة التصعيدية للعنف وتحويله إلى مقدس تجاه الاخر المدنس والذي يشكل تهديدا مصيريا، وهي التي تصور إستحالة إستمرار حياة الجماعة طالما أن الآخر موجود كيانيا، وعليه فالأمر يستلزم تجريد الحملات والحروب للدفاع عن وجود الجماعة، وهذا الدفاع يستلزم القيام بكل ما هو أخلاقي وغير أخلاقي تجاه الطرف الآخر، فكل الوسائل التي تؤدي إلى إنهاء وجوده أو إخضاعه، هي وسائل مقدسة ما دامت الغاية النهائية حماية الجماعة وحماية الأرض والعرض .
كيف نخرج من هذه الدائرة القاتلة؟ وكيف يمكن تصور العودة إلى ما قبل هذه الحالة في ظل ترسخ هذه التصورات النمطية؟ لقد أثبتت التجارب التاريخية أن هذه النمط من الجنون يستمر عقوداً طويلة، لم تتخلص منه اوروبا إلا بعد حرب دامت 130 عاما شملت أرجاء القارة بأكملها وأبيدت أقاليم بحالها. والواقع أن السلم حصل عندما إستنفدت تلك المجتمعات طاقتها الحربية وهلكت أجيال عديدة، وفي ذلك المناخ ولدت التنويرية الأوروبية التي أسست لفكرة الأمة السياسية التي هي أوسع نطاقاً من الجماعات المحلية والطوائف، ومنها جاءت فكرة دولة المواطنة والحقوق، الدولة التي يصبح الجميع على درجة من التماثل تنتفي عندها التقييمات الضيقة التي تنتجها الجماعات المحلية لمصلحة الجماعة- الامة التي تشترك في لغة واحدة وتاريخ واحد ومصير مشترك.
المستقبل