مراجعات كتب

صناعة الموافقة على خطط الهيمنة الإمبراطورية

 

مراجعة: د. عفيف عثمان

[ الكتاب: بشرة سمراء أقنعة بيضاء

[ الكاتب: حميد دبشي ترجمة حسام الدين خضور

[ الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر، دمشق 2014

يعد المفكر الأميركي الإيراني الأصل، حميد دبشي (تولد العام 1951)، الذي يدرِّس علم الأدب المقارن في مركز نيويورك للدراسات الإيرانية بجامعة كولومبيا، أحد أهم المفكرين المسلمين المرموقين في الولايات المتحدة، يرفض السائد من الآراء، لا بل يفكر من خارج الأطر الجاهزة للمؤسسة الفكرية وما تبثه من أشكال تعبير جاهزة، وهو ينتقد «امبريالية» واشنطن، ويدافع عن المسلمين في المقام الأول، الذين تحولوا منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر في العام 2001 الى ضحايا ومتهمين بالجملة، ويعيب على وسائل الإعلام الإخبارية دورها الكبير والمؤثر في التعبئة للحرب، لا بل قرعها لطبولها، وقد استفادت شاشاتها من باحثين أصحاب شهرة مثل دانييل بايبس وديفيد هورويتز.

ينتقد دبشي «نفاق المعايير المزدوجة»، فالإدانة تكون جاهزة حين يكون مسرح العمل الدامي أمكنة مثل نيوورك أو لندن أو مدريد أو باريس، وكأن بعضهم يرى نفسه «أكثر إنسانية من الآخرين»، لكن الحدث الشبيه يمر بصمت إذا كان في بغداد أو بيروت أو غزة أو إسلام آباد. ويروم الباحث فهم هذا التناقض القاضي بتسعير الغضب على أعمال يصدف أن مرتكبيها مسلمين، فيوسمون بكونهم برابرة، هدفهم تدمير الحضارة الغربية، والنظر بعين الرضا عن أعمال غيرهم، وأيضاً فهم كيف تتم عملية «الحيّونة الممنهجة» لهم مع عدم الاهتمام بمعاناتهم، ولا سيّما الفلسطينيين، يجب البحث إذاً، بحسبه، عن الأصل والوظيفة.

يطرح نزيل الولايات المتحدة، كمفتاح أول للفهم فكرة «المجتمع الأيديولوجي»، حيث يخلق رأس المال دائماً ثقافاته المراوغة، وحيث ثمة تعارض بين الحقيقة والخيال، وهو يتبنى مقولة وليم كورنهوسر عن «مجتمع الجماهير» (1959)، حيث الأفراد فيه «ذرات منفصلة في كينونات عديمة الدفاع خارج أي دعم مؤسسي ضد الفاشية والتوتاليتارية»، ومقولة غي دي بورد عن «مجتمع المشهد» (1967) الذي تستبدل فيه التجارب المعاشة للأفراد المنفصلين وجودياً بتمثيلاتهم. وعنده، إن المجتمع الأميركي مجتمع أيديولوجي تشكل من أحداث تاريخية وتطورات اجتماعية وإيمان ميتافيزيقي، وتمثيلات بصرية، قادت الى خلق جمهور يحمل عقيدة وإيماناً ثابتاً في ما يتعلق بفرديته التاريخية الخاصة، وما يجمعه هو ببساطة ما أطلق عليه روبرت بيلا «ديناً مدنياً« يقع تحت رحمة تقلبات رأس المال.

يستشهد الكاتب بالفرنسي ألكسي دو توكفيل (1805 1859) الذي لاحظ مبكراً نزعة المراقبة في الديمقراطية الأميركية، فكتب: «لا يوجد بلد فيه عقل أقل استقلالية وحرية نقاش حقيقية مما في أميركا، ففي أميركا أغلقت الغالبية على فكرها ضمن سياج هائل. الكاتب حُر في إطار تلك المساحة، لكن الويل لمن يذهب أبعد منها»، ويضيف: «… السلطة التي تهيمن في الولايات المتحدة لا تفهم أن يُسخر منها، اللوم الأقل يزعجها، وأقل لسعة للحقيقة تجعلها ضارية، والمرء يجب أن يطري كل شيء، من دور عباداتها الى أكثر فضائلها وضوحاً. لا يستطيع كاتب، مهما كان مشهوراً، أن ينجو من واجب تبخير إخوته المواطنين. فالغالبية تعيش حالة من الهيام بالذات الدائم، ولهذا لا يمكن إلا للأجانب أو التجربة أن تجلب حقيقة تثير انتباه الأميركيين».

ومن قلب هذا المجتمع الأيديولوجي تنبعث رسالة أخلاقية أو «قدر مقدس»، يدفعه صوب «الهيمنة العالمية»، وقد عبرت السينما الهوليوودية كثيراً عن هذه الصورة، والمثال كان جون واين في فيلم «المستكشفون» (1956) لجون فورد، والفكرة الأميركية أن الكرة الأرضية في حاجة إلى إنقاذ (سوبرمان، باتمان… إلخ)، وعلى العم سام أن يبادر الى الفعل ولو عنى ذلك تدمير العالم.

وفي العصر الأمبراطوري عملت الآلة الدعاوية الأميركية على جعل «الأسمر» و»المسلم» هما «الآخر المعاصر»، ونسجت نظريات التفوق والصراع: فوكوياما في «نهاية التاريخ» (1989) تزامناً مع انهيار الكتلة الشرقية، وهنتنغتون في «صدام الحضارات» (1993) مع الانقلاب الديموغرافي العالمي، وفي الكتابين تركيز على «العدو»، أي الإسلام، وقد نجحا في جعل أفكارهما شعبية، مستفيدين من أعمال برنار لويس الاستشراقية.

المفتاح الثاني للفهم بيد دبشي، هو «المخبر المحلي» (native informer)، خادم المشروع الإمبريالي بإخلاص في أراضي مستخدمه وعلى جبهته الداخلية نفسها، وهو وارث «مزود المعلومات» القديم في العهود الاستعمارية، وما أنتجته من «أنتروبولوجيا» بقصد الهيمنة، وما يقدمه المخبر المحلي يساهم الى حد كبير في تعزيز استراتيجية الطرف القوي الخارجية حين يذهب الى الحرب ويرغب في تشكيل رأي عام مساند. ويأخذ دبشي مواطنته آذر نفيسي في «قراءة لوليتا في طهران» (2003) نموذجاً نمطياً، الى جانب كثيرين ومن عدة جنسيات، فعملها الروائي كان الأكثر مبيعاً زمن جورج بوش، وخدم ما سردته أفكار المحافظين الجدد.

يرسم الباحث الإيراني خلفية هؤلاء المخبرين الموظفين في ماكينة الدعاية الغربية الكبيرة، القادمين من أمكنة مثل إيران ولبنان والصومال وباكستان، وغالباً من خلفيات متواضعة، يسعون للصعود الاجتماعي وتحقيق النجاح، وهم يخبرون مشغليهم لا «ما يحتاجون الى معرفته، بل ما يريدون أن يسمعوا»، ويواكب ذلك حملة علاقات عامة تدفع بهم الى تصدّر الشاشات وتقديم التبريرات «للخطط الأميركية في العالم الإسلامي»، طبعاً بعد شيطنة مجتمعاتهم. وفي شكل محدد، إنهم أولئك الأكاديميون الذين هجروا قاعات الدرس وأبحاثهم وانضموا الى الإدارات العسكرية والأمنية، ونجحوا في «تلفيق القصص عن القضايا الراهنة».

وما نشهده، في نظر دبشي، المفتون والمقتدي بعمل فرانز فانون الرائد في نقد السيطرة الكولونيالية وأوالياتها «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، هو «طريقة جديدة لإنتاج المعرفة عن الشرق (…) شكل من المعرفة يُنتج تحت الإكراه بالتهديد»، واللغة الأيديولوجية الإمبريالية الجديدة باتت تنطق بلسان مرجع محلي، بعد أن كانت ولزمن طويل من نصيب «الخبير» فحسب.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى