صورة أبي لن تنطق
ديمة ونوس
كرسي بلاستيك بني اللون، يتكئ على الجدار الخارجي للبيت. يفيض الكرسي وهو يحتوي جسدها الهزيل ويتحول برمشة عين إلى كرسي اعتراف. جدتي التي بلغت من العمر تسعين عاماً على الأقل، تجلس ككومة جسد، لا حول له ولا قوة. ثمة روح تمكث وراء ذلك الجسد الهزيل. ثمة ذاكرة يخونها الجسد عندما يبلغ التسعين، فيصبح ملكاً للآخرين وأهوائهم ومواقفهم. كم هي موجعة فكرة أن يتحول الجسد إلى مشاع حتى وإن ضاق على الروح المتقدة وراء أضلاعه. ثلاث صور نشرت على صفحتي على الـ “فيس بوك” قبل أيام. وكنت في باريس لحضور عرض “طقوس الإشارات والتحولات” على خشبة ال”كوميدي فرانسيز”.
ثمة من دخل إلى بيتها. لملمها من سريرها أو من الكنبة التي احتوتها أكثر من خمسين عاماً، واحتوت ولديها وضيوفها وأحفادها. ثمة من سرقها من سكينتها وبعثرها على كرسي بلاستيك بني اللون. العلم السوري يلفّ رقبتها ويتدلّى على كتفيها. تمسك بعلم آخر بيدها اليسار. ويبدو واضحاً أنها لا تمسك بالعلم. بل إن العلم يمسك بها. ثمة من أدخله بين أصابعها المضمومة كأصابع الأطفال. فمها مغلق في الصور الثلاث. عيناها تنظران إلى عين الكاميرا. فيهما من الأسى ما يكفي لإغراق المرتكبين بالخجل والعار. وضعوا صورة ابنها الوحيد على الأرض بالقرب منها. صورته الشهيرة وهو يلقي كلمة يوم المسرح العالمي. يعتمر قبعة صوف بيضاء وشال زيتي كان هديتي له في عيد ميلاده. أحكته بالسنّارة وكنت أحب صناعة الهدايا بدل من شرائها. جدّتي تميل بجسدها إلى صورة إبنها الوحيد. كأنها تميل بفعل الجاذبية. وتلك الاستمالة هي فعل التمرّد الوحيد لروحها في تلك الصور الثلاث. ترفع إصبعيها بإشارة النصر. لا نعرف عن أي نصر تشير تلك اليد المتعبة، المتخمة بالقصص والذكريات، عروقها نافرة، والزمن صار بطيئاً وموحشاً بعد أن رحل عنها وحيدها.
كل صباح، كانت جدتي تصنع لي الفطور بتلك اليدين المتعبتين، القويتين. تجلس إلى جانبي في المطبخ على كرسي واطئ، تراقبني وأنا آكل وتستمتع بتلذذي بما أعدّته من طعام. تروح تروي لي حكايتها، وتشرد بسرد سلس ومتدفق لا يقطعه سوى شرود الذاكرة عندما تصادف حدثاً معيناً يوجعها. تحكي لي كيف تزوجت بجدي وكيف عاشا وأين عاشا. تحكي عن حبلها بأبي وعن الكابوس الذي زار جدي قبل الولادة. حدسها بأن ابنها الوحيد لن يكتب له عمر طويل وستشهد رحيله قبل رحيلها.
جدتي التي طلبت مني أثناء مكالمة هاتفية أن أزورها في أسرع وقت ممكن، لا تعرف ما يجري في سورية. قلت لها: “سآتي عندما تهدأ الأوضاع”. فقالت: “الأوضاع هادئة والطقس جميل. تعي يا ديمة. اشتقتلك. بدي شمّ ريحتك”. جدتي تقبل سمّاعة الهاتف عندما تحدثنا أمي وأنا. تقبّل السماعة كي تصل القبلة كما هي، بصوتها ورنّتها على الوجنتين والجبين.
أخذوها من بيتها، يوم كانت فرنسا تحتفل بابنها في الذكرى السادسة عشر لرحيله. حوّلوها إلى تمثال يجلس على كرسي. لفّوها بالعلم. رفعوا يدها في الهواء. حرّكوا رأسها الصغير باتجاه الكاميرا. وأدخلوا أصابعهم إلى عينيها، لتنظر إلى عين الكاميرا مباشرة وصرّحوا عنها. قوّلوها أفكارهم ورغباتهم. ولم تفلح كل محاولاتهم بأن تتسرّب بعض وحشيتهم إلى نظرتها المحايدة، المسالمة، المستسلمة لعمر مضى وزمن يسيل ويتسرّب من بين أصابعها.
أمضيت طفولتي معهم. لعبنا. تقاسمنا الأحلام والأسرار. نخرج ليلاً إلى الطريق الموحش الذي تعبره سيارات قليلة، نمشي ونتسامر ونخاف من العتمة فنركض عائدين. نذهب إلى “النيزلة” وهي مقبرة الضيعة، نتحدّى خوفنا من أساطير يقظة الأموات ليلاً وتجوالهم بين القبور. أحبّهم. لم نتواصل منذ مدة طويلة. أعرف كيف تجري الأمور عامة. أعرف أن ثمة فتورا يطغى على ذلك الحب. لكنني لم أستطع أن أكره. ولا أريد أن أكره. وأتجنب الإمعان في التفكير كي لا أحقد. لكنهم كانوا يقفون هناك. يميلون برؤوسهم لتضمّهم الصورة إلى جانب جدتي وصورة وحيدها. ينظرون إلى عين الكاميرا، إلى عينيّ مباشرة. ينظرون بإحكام. يحكمون الإمساك بالعدسة بنظراتهم الثاقبة، الواثقة، الشرسة. وما زلت أحبّ ذاكرتي عنهم. يصعب التخلي عن الذاكرة.
الجسد التسعيني الذي حُمل إلى الخارج، سيبقى مخدوشاً. وصورة أبي لن تنطق مهما فعلوا.
المدن