صورة الجوع/ حسن داوود
ليست تلك تظاهرة إذ أنّ أحدا لم يسع إلى تنظيم جموعها. إنها خروج شامل لم يبق فيه أحد ماكثا في بيته. شيء مثل ساعة الشتات الأولى حيث يخلي الناس مدينتهم من دون رجعة إليها. ألأبنية التي على الجانبين دالّة على ذلك، إذ إلى أين سيعود هؤلاء. بل من أين خرجوا، يقول مُشاهدهم الناظر إلى حطام الأبنية حولهم؟ إحدى صحف التابلويد البريطانية وصفت المشهد بكونه “صورة توراتية للألم”. ذاك أنّه أقرب إلى أن يكون من صنيع المخيّلة، أو من تذكّر ما صنعته مخيّلات سابقة، استُمدّت من قصص التوراة نفسه. في مكان آخر كُتب أن لم يسبق أن بدا الجوع بهذه القوة. روبرت ماكاي كتب في نيويورك تايمز أنّ الصورة، من فور ظهورها، حقّقت وجودها، كما انتشارها، بنفسها ومن دون أن تتولّى قيادة شهرتها هيئة أو دولة. ملايين الإنطباعات والتعليقات جرى تدوينها على وسائل الإتصال الإجتماعي في اليوم ذاته، كما أنّها، في يوم واحد، نشرت في ما يقرب من ألف مطبوعة ورقية في العالم.
أوّل أمس أعلن مصدر في الأمم المتحدّة أن الصورة ليست مزيّفة ولم تجر عليها أي عملية فوتوشوب. ألبرهان على ذلك، بحسب ذاك المصدر، ألصور الكثيرة الأخرى التي التقطت عن يوم كانون الثاني ذاك، وبعضها لا يقلّ عنها تعبيرا عن “الألم”. من هذه صور واحدة تنقل وقوف الناس في صفين طويلين، بعد أن وجدوا من ينظّمهم، صاغرين منتظرين، إذ كانوا مدركين أنّ ما ينتظرونه قد يتوقّف في لحظة، حيث تكفي قذيفة واحدة، واحدة فقط، لأن تخربط نظامهم وتعيدهم إلى الأمكنة التي قدموا منها، تلك التي نتخيّل أنها، هناك، في آخر الصورة، حيث يظهر آخر الحشد.
بموزاة الإنتشار الهائل الذي عرفته الصورة كان لا بدّ أن تُبذل جهود هائلة لتكذيبها. لا الصور الأخرى التي أخذت من احتشاد الجوع ذاك، بما فيها تلك التي ظهرت فيها المرأة العجوز المنهكة المستندة إلى ذراعي رجلين يتقدّمان بها إلى موزّعي الطعام الذين سيغيثونها. قالت للصحافيين آنذاك إن أبناءها ماتوا جميعا، هكذا فقط إذ ليس لديها ما تضيف على ما قاله كثيرون، في مخيّم اليرموك حيث هي، وفي سوريا كلّها أيضا.
لم تشنّ حرب التكذيب على الصور الأخرى. كانت تلك الصورة كما لو أنّها الصورة الأم، ألصورة الأصل، طالما أنّ ما يذكّر بالألم القديم “ألتوراتي، بحسب الصحيفة البريطانية” هو خروج الناس كلهم إلى حيث هم قاصدون، أو على الأصح إلى حيث هم ذاهبون. ألمشاهد التي يظهرون فيها بعد تفرّقهم، أو تشتّتهم، لا تستدعي الوقوف عندها. ثمّ أنّ الحرب هناك في سوريا أوصلت مشاهدي الصور الناقلة لأعداد قليلة، أوصلتهم إلى الحدّ الأقصى من الفظاعة فلم يعودوا منتظرين أن يكون أحد قدرا على أن يفاجئهم بالمزيد.
كريس غانيس، ألناطق بإسم وكالة الغوث الفلسطينية (الأونروا) يرد أيضا على تهمة التحيّز التي ووجهت بها الوكالة. بين ما قاله إن “غريزة الحياد هي طبيعة ثانية” للعاملين في مؤسّسات الأمم المتحدّة، وذلك ردا على قول المتهمين أنّ الصورة هذه تغلّب طرفا على طرف في القتال الدائر هناك. إنهم، أولئك الذين في الصورة، طرف في الحرب إذن، وهم خرجوا في ذلك اليوم ليخوضوا معركة.
المدن