صورة «السيلفي»… غياب عن العالم وتقوقع/ كامل داود
الوحدة هي صنو عصا. فالمرء يقطع آلاف الكيلومترات للقاء الآخر أو ثقافته او مشاهده، ولكن حين تسنح لحظة اللقاء يخرج العصا ليلتقط صورة نفسه. فيكرس وحدته وقطيعته مع العالم وتقوقعه وكأنه يعلن لامبالاته بالآخر ولفظه إياه. ويتخلى المرء عما يبحث عنه: الآخر وإشارات عالمه. فصورة «السيلفي» هي الوحدة والعلامة عليها. وثمة عرض آسر يدور في شوارع بروكسيل أو في جوار بحيرة هيو العطرة في فيتنام: رجل جاء من بعيد ليرى العالم ولكنه لا ينظر اليه ويعتبره خلفية صورته. فالعالم هو ذريعة الى الصورة. وهو مثل قاع الشاشة. والسائح الذي كان يستدل على طريقه من الآخر كان ينفخ في اللقاء وسوء التفاهم والتبادل والرابطة. واللقاء كان ينتهي الى تفاهم وفرصة سرد ورواية. و«السيلفي» هي جسر الى الاستغناء عن العالم والآخر والحاجة اليه. وهي الوحدة ومرض عالمي، وكأنها مرض وحيد القرن الذي دار كلام الكاتب المسرحي إوجين يونسكو عنه: وباء معد يجعل المرضى غير مبالين بالآخرين. وهو مرض يحمل الناس على خلاصات قاتمة: العالم كله ليس سوى صورة سيلفي لمن يدير ظهره لنا ويجول في اساطيرنا. وحركة التقاط السيلفي هي في مثابة طقس: السائح او الفرد ينتخب مكاناً أو مناسبة، ويخرج عصا طويلة يتوسل بها الى صناعة انعكاسه الجامد والنأي عن العالم. وعلى خلاف فن «البورتريه» (صورة الوجه) القديم، وهذا شاغله الإنسان ولا يحيل العالم إلى مسند يتكئ عليه الوجه، بوتريه «السيلفي» هو غياب عن العالم ورفض له، وعزلة في مكان اللقاء. وتحيل السيلفي المكان الى ديكور. والكيبيكيون مصيبون في تسمية «السيلفي» بـ «إيغوبورتريه» (بورتريه الأنا). ويفوت الياباني المنصرف الى التقاط صورة السيلفي حين يزور بروكسيل فرصة الكلام مع عابر. فهو حين يستل عصا السيلفي يصد احتمال اللقاء ويتمسك بصورته الذهنية تمهيداً لالتقاطها وتثبيتها وتجميدها وتكبيلها والقبض عليها وأخذها الى منزله كما لو انها غنيمة، أو طريدة. والسياحة هي امتداد لشقة المرء في مسقط رأسه. فالمرء لا يسافر الى العالم ويتجه اليه، بل يدور في الحي نفسه مع الأشخاص نفسهم الذين يأخذهم معه كجمهور على مسار رحلته المغلقة. وعصا «السيلفي» هي في مثابة عصا راع شاغله جمع قطيع الخرفان في رأسه.
والسيلفي هي مرض العالم. فأعضاء في «داعش» لم يقاوموا مد هذا النازع العالمي، والتقطوا صور «سيلفي»، فكشفوا عن مكانهم، ورصدوا وقتلوا. واستخدام «السيلفي» هو مدار نقاش ديني في الدول العربية. وأعلن علماء دين ان التقاط الحجاج صور «سيلفي» في مكة محرم ومحظور. ودارت الشبهات على ان التقاط «السيلفي» في مثل هذا المكان هو فعل وثني. وثمة صورة آسرة منشورة على النت: شاب يركض وثور يلاحقه. والملفت انه يحمل هاتفه لالتقاط صورة نفسه لحظة يطاردها ثور هائج. فشاغل الشاب المطارد هو تخليد هذه اللحظة، وهو يدرك انه في عرض متواصل، ويفكر، على رغم الخوف، كيف سيعرض الصورة ويروي ما حصل على مسامع آخرين. فالمشاعر العميقة والبدائية مثل الخوف لم تنج من شباك الحاجة الملحة الى «السيلفي».
والعصا هي المسافة في حضارة الصورة: المسافة بين الإنسان واللقاء بالآخر. وكأن المسافة بين روبنسون كروزويه الغريق الذي يهيم على جزيرة بمفرده وجمعة الذي يكسر عزلته: هي 50 سنتم (طول العصا). والعصا قابلة للتمدد. وهي ليست عكاز الحج بل عصا تشهر في وجه القرب وهي علامة الصد والرفض واللفظ. فهي لا تعين الماشي ولا تسنده، بل تعزله ولا تمهد الأرض. وكأن نهاية العالم هي عصا «سيلفي».
* روائي صاحب «ميرسو: تحقيق مضاد»، عن «لوبوان» الفرنسية، 18/6/2015،
إعداد منال نحاس
الحياة