صورة من الداخل للحكومة العربية في دمشق 1918-1920/ محمد م. الارناؤوط
نقترب الآن من الذكرى المئوية لإعلان الحكومة العربية في دمشق، الحدث المهم على مستوى المنطقة الذي حمل الكثير من التفاؤل للنخبة العروبية مع انحيازها للحلفاء في الحرب العالمية الأولى (بالاستناد إلى وعود غامضة)، وهو ما توّج في الإعلان عن استقلال سورية بحدودها الطبيعية في 8 آذار/مارس 1920، ثم انتهى إلى إحباط مع معركة ميسلون في تموز/يوليو 1920 وتفتت بلاد الشام إلى كيانات تحت الاحتلالات/ الانتدابات الأوروبية.
وإذا كان الحدث الأول (إعلان الأمير فيصل للحكومة العربية في 5/10/1918) يعتبر تتويجا لـ “الثورة العربية” خلال 1916-1918، فإن معركة ميسلون وسقوط الحلم العروبي هو الذي جعل الأمير عبد الله يستجيب لمناشدات العروبيين ويأتي إلى شرق الأردن في نهاية 1920 لـ “تحرير سورية من الاحتلال الفرنسي”، ويقبل بأن يكون على رأس كيان جديد تحت الانتداب البريطاني، ولكنه بقي يحلم بـ “سورية الكبرى” حتى اغتياله في 1951. ومن هنا بقي الأردن يحتفل كل عام بيوم 8 آذار/مارس كل عام حتى 1963، أي حين وقع الانقلاب العسكري في دمشق وغطّى يوم الانقلاب في 1963 على يوم الاستقلال في 1920.
وكانت المؤرخة الفلسطينية خيرية قاسمية (1936-2014) قد اهتمت مبكرا بهذا الحدث، إذ اتخذته موضوعا لرسالتها للماجستير في جامعة القاهرة التي نشرتها عام 1971 في كتاب (الحكومة العربية في دمشق 1918-1920) غدا المرجع الرئيس لعدة عقود. ومع أن د.قاسمية اعتمدت على مذكرات لمشاركين أو مجايلين للحكومة العربية، إلا أن ما ينقص الكتاب كان الوثائق الخاصة بالحكومة العربية نفسها. وفي هذا السياق لدينا الآن اكتشاف مهم يتمثل في الأوراق الخاصة للأمير زيد شقيق الأمير فيصل الذي ناب عن أخيه فترات طويلة في إدارة شؤون البلاد خلال وجود الأمير فيصل في أوروبا لمتابعة “الاستقلال العربي” مع الحلفاء خلال 1918-1919.
كان الأمير زيد الابن الأصغر للشريف حسين، والوحيد من زوجته التركية في اسطنبول، وقد شارك بقوة في العمليات العسكرية للثورة العربية وصولا إلى التحاقه بالأمير فيصل إلى دمشق بعد إعلان “الحكومة العربية” في 5/10/1920. وبالمقارنة مع الأمير فيصل، الذي اعترف به الحلفاء على رأس حكومة دونما حدود أو ولاية واضحة ثم انتخبه المؤتمر السوري على رأس “المملكة السورية” في 8/3/1920، كان الأمير زيد أكثر حرصا على الاحتفاظ بالأوراق والوثائق سواء التي تتعلق بالثورة العربية 1916-1918 أو “الحكومة العربية” 1918-1920. ومن هذه الأوراق والوثائق وصلت مجموعتان إلى المؤرخ الأردني سليمان الموسى الذي استفاد منها ليصدر كتابين مرجعيين: الأول “المراسلات التاريخية: وثائق الثورة العربية الكبرى (1973)” والثاني “مذكرات الأمير زيد: الحرب في الأردن 1917-1918 1917-1918″ (1976)، لكن المجموعة الثالثة التي تتعلق بـ”الحكومة العربية” لم تكشف إلا في وقت متأخر ولم تنشر إلا مؤخرا في عمّان (أمانة عمان الكبرى 1916).
وكان الأمير زيد قد لحق بأخيه الأمير فيصل بعد أن أصبح ملكا على العراق وأصبح سفيرا للعراق في تركيا (1932-1935) ثم ألمانيا (1935-1938) وأخيرا في بريطانيا (1946-1958) حتى الانقلاب العسكري في 14 تموز/ يوليو 1958 الذي أطاح بالعائلة الهاشمية الحاكمة. ويبدو أنه بسبب الأحداث ترك الأمير زيد مبنى السفارة على عجل، الذي بقي مقرا لسفارة لجمهورية العراق حتى 2008. ومع تنظيف مقر السفارة للمالك الجديد اكتشف أحدهم مجموعة من الأوراق التي تبيّن لاحقا أنها المجموعة الثالثة من الأوراق والوثائق الخاصة بالأمير زيد (الذي توفي في 1970 دون أن يعرف مصيرها)، فقام ابنه الأمير رعد بتحويلها إلى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية سعد أبو دية، الذي عمل على إصدارها مع فريق عمل.
مع هذا الكتاب الجديد الذي يضم الأوراق والوثائق المتعلقة بـ “الحكومة العربية” 1918-1920 لدينا مرجع مهم يصدر في وقته عشية المئوية، التي تأتي أيضا في وقتها لاكتشاف ما تعنيه بالنسبة للهوية العربية أو الهوية الوطنية للسوريين.
في هذا الكتاب لدينا مجموعة من البرقيات من وإلى الأمير زيد ومجموعة من المراسلات من وإلى الأمير زيد مع أخيه الأمير فيصل وأخيه الأكبر الأمير/ الملك علي بن الحسن (بعد تنحي والده عن الملك) ووالده الشريف/ الملك حسين (الذي اعترف به الحلفاء ملكا على الحجاز فقط) وغيرهم من الشخصيات المركزية في “الحكومة العربية” (يوسف العظمة وجعفر العسكري ورفيق التميمي وصبحي الخضرا وغيرهم) وبعض المسؤولين العسكريين والمدنيين من الحلفاء.
ويمكن القول إنه في ضوء هذه الوثائق التي تنشر لأول مرة تتشكل لدينا صورة من الداخل عن “الحكومة العربية”، وبالتحديد عن مشاكلها الكثيرة وإحباطات النخبة العروبية من الحلفاء الذين تعشموا منهم الكثير خلال الحرب العالمية الأولى. كانت المشكلة الأكبر هي نقص المال لدفع الرواتب للمقاتلين الذين جاؤوا مع الأمير فيصل إلى دمشق أو للقبائل التي أيدت الثورة العربية في الوقت الذي لم تكن فيه حدود “الحكومة العربية” واضحة ولم تكن لها ولاية أو سلطة على كل المناطق، وبالتالي لم تكن لها موارد. وفي هذا السياق نجد أن الأمير فيصل ترك شقيقه الأمير زيد على رأس “الحكومة العربية” في أسوأ وضع، مما جعله يطلب باستمرار الدعم المالي من أبيه الشريف حسين وأخيه الأمير علي، مما يبرز حقيقة أن الحجاز هو الذي كان ينفق من حين إلى آخر على “الحكومة العربية” في دمشق، حيث إن الأمير زيد كان يضطر إلى الاستدانة من التجار إلى أن تصل التحويلات من الحجاز. فالشعب ضمن الحدود المفترضة لـ “الحكومة العربية” لم يكن بعد يعي هذا التغير الكبير بين الدولة الآفلة (العثمانية)، التي كان يتهرب قدر الإمكان من دفع الضرائب لها، وبين الدولة الجديدة (الحكومة العربية) التي يفترض أن يشعر بالولاء لها ويدفع لها الضرائب عن رضى. ويبدو هذا بوضوح في ما حلّ بالجنود السوريين الذين شاركوا في معركة ميسلون، إذ إنهم تعرضوا في طريق تقهقرهم إلى دمشق للسلب سواء من البدو أو الفرحين على طول الطريق.
ولكن مع هذا تكشف الوثائق الموجودة في الكتاب عن بروز واضح في الوعي الوطني للسكان من مسلمين ومسيحيين بعد اتضاح توافق الحلفاء على تقسيم بلاد الشام إلى كيانات تحت سيطرتهم. ففي رسالة بتاريخ 1/11/1919 من الأمير زيد إلى الأمير فيصل الموجود في باريس للتفاوض، ينقل له الأجواء الجديدة في دمشق بعد انتشار اتفاق الحلفاء على تجزئة بلاد الشام، حصل تفاهم بين عموم الطوائف في جميع المنطقة بصورة فوق التصور والاتفاق الذي أبرم للدفاع عن الوطن فوق الطبيعة “جزى السيد لويد جورج وكليمنصو خيرا باتفاقهما الأخير الذي جمعوا فيه كلمتنا منذ ثلاثة أيام. توالى ممثلين (كذا) كل الأحياء على عموم الطبقات وحلفوا الأيمان المغلظة في حديقة دار الإمارة بأنهم (حاضرين) للدفاع عن الوطن بكل غال ورخيص… ثم بدأوا بالذهاب إلى أماكن مخصصة لتعلم الرماية والحركات العسكرية في الأسبوع مرتين…”.
ولكن حينما بدا ميل الأمير فيصل في باريس إلى حل وسط للتفاهم مع فرنسا، نجد أن الأمير زيد يصارح أخاه الأمير علي في رسالة أخرى بتاريخ 4/11/1919 بشكل مختلف: “أما حالة الشعب هنا فقد بدت فيه روح الوطنية بصورة فوق التصور. والله إن فرق المتطوعين في الجيش الملكي كل يوم في ازدياد، في الأسبوع مرتين يذهبون إلى ساحات الرمي والتعليم ويتعلمون الحركات العسكرية لافرق بين المسيحي والمسلم. ولا شك أن الأمير فيصل سيشتد ساعده من أعمال الشعب… وإذا لم ينجح سموه في هذا الأمر سيكون مجبورا أن يعلم الشعب بما طلبه من الحلفاء باسم الشعب وما (قرروه) الحلفاء على الشعب. عندئذ الشعب إما سيدافع ويموت في هذه الغاية المقدسة أو يسلّم الحكم”.
ومن ناحية أخرى يبدو في هذه الوثائق الإحباط الكبير للنخبة العروبية من الحلفاء بعد اكتشاف الفارق الكبير بين الوعود العامة التي أطلقت للشريف حسين في 1915 وبين الحقائق الجديدة (التجزئة) التي أصبحت تفرض على الأرض. وتبدو هنا شخصية الأمير زيد بشكل خاص الذي يكتب في 5/11/1919 إلى أحد المسؤولين الإنكليز “لست أرغب أن أبقى أميرا معظّما وأبناء جنسي يموتون ووطني يقسّم. لا شك أنني سأكسب الشرف الرفيع بين قومي أو أموت حرا”.
ومع التقدير للعمل المبذول في إخراج هذه الوثائق إلى النور في هذا الكتاب الكبير نسبيا (355 صفحة من القطع الكبير)، إلا أنه كان من الأفضل لو أن هذه الوثائق أُعطيت لمؤرخ لكي يتعامل معها ويخرجها حسب الأصول العلمية. فعلى الرغم من حجم “الفريق” الذي ساعد د. أبو دية في إعداد هذه الوثائق (ستة أشخاص) إلا أن هذه الوثائق تفتقر إلى أصول العمل في الوثائق التاريخية وإخراجها، إذ إن اللغة غير مفهومة في بعض الأماكن وكان يجب التمييز بوضوح بين نص الوثيقة والتعليق عليها سواء لأجل تصويب الأخطاء أو التعريف ببعض الشخصيات الواردة في هذه الوثائق ونشر صور بعض الوثائق لأجل مصداقية العمل. وبالإضافة إلى ذلك لا يشير غلاف الكتاب إلى أهميته، أي أنه يضم وثائق الأمير زيد المفقودة بل بدا كأنه أحد كتب سعد أبو دية.
*أكاديمي كوسوفي/ سوري
ضفة ثالثة