ضاق خلقي من هالجوّ العربي
رامي الأمين
“ضاق خلقي”. العبارة نستخدمها كثيراً، وفي مواضع كثيرة. لكنني هنا استخدمها في حرفيتها. ضاق خلقي، حرفياً، أي أنه تقلّص ولم يعد يستوعب ما كان يستوعبه سابقاً. صار ضيقاً، بمعنى أنه لم يعد واسعاً. لم يعد قادراً على احتمال ولو نقطة واحدة. حرفياً، نقطة واحدة ويطفح.
هنا تبرز عبارة أخرى، نستخدمها كثيراً، وفي مواضع كثيرة. لكنني سأستخدمها هنا في حرفيتها: طفح الكيل. نعم طفح، حرفياً، أي انه لم يعد قادراً على استيعاب أي شيء مادي، سائلاً أكان أم صلباً. ولا حتى دمعة. يمكن تخيّل الكيل عندما يطفح. كيل مليء عن آخره، لكننا لا نعرف بماذا هو طافح، بأيّ مواد تراكمت واختلطت فيه. طفح الكيل دماً ودموعاً ولعاباً. طفح بدم القتيل ودمع الناجي ولعاب القاتل. والكيل، كيلي، مُعدّ لأن يُملأ بهذه المواد.
فمذ ولدتُ، وأنا أجمع الدم والدموع واللعاب. أجمعها كهاوٍ متمرّس، كما يجمعون الطوابع، كما يدّخرون المال. نقطةً نقطة، جمعتُ الدم الكثير الذي سال، من كل الحروب التي عشتُها، من كل الجروح التي خبرتُها، من كل الشاشات التي تابعتُها. نقطةً نقطة، جمعتُ الدمع الذي ذُرف حاراً ملتهباً على الخدود، ونقطةً نقطة جمعتُ اللعاب، لعاب الكلاب المتوحشة والمستوحشة، اللاهثة الجائعة، الناهشة في اللحم، الغارقة في الدم، النابحة في وجه قمر أحمر، الراكضة في ظلام الشوارع، داهسةً المطر الممزوج بدموع الآلهة. نقطةً نقطة حتى الإمتلاء الكامل، جمعتُ الألم بعدما جرى تسييله دماً ودموعاً ولعاباً، في معامل الكراهية، وجرى تطيير أبخرته، حقداً، أملاً، ابتسامات، وأحلاماً مهدورة.
“ضاق خلقي”. هذا السجن الذي في داخلي. السجن الذي يسكنني ويسجنني في آن واحد. السجن الذي أسكن خارجه، وتغلّفني قضبانه من الداخل. سجن الروح، في القفص الصدري، حيث تربض بلاطة، كأنها لضريح مؤجّل، وحيث ينسحق عصفور أزرق بقسوة العظام، وينبض ألماً، عارفاً أن المصير قاتم، وأن الأمل نافذة إلى العدم، أو إلى الله، لا فرق.
“طفح كيلي”، هذا الجسد المتروك للخواء، الذي تلعب فيه الروح والريح، باردتين، صافرتين، مولولتين كنسوة في جنازة، أو مزغردتين كأمهات في أعراس الشهداء. هذا الجسد الخاوي، على رغم امتلائه عن آخره بالسوائل. هذا الجسد، الذي يوماً بعد يوم، يتحول إلى مجرور، ينتج الخراء، من الأنف والأذنين والمبولة والمؤخرة والعينين ومسامات الجلد. هذا الجسد بتقرّحاته وجروحه التي تنزّ وتلتهب وتفرز الألم سوائل بألوان مختلفة. هذا الجسد المقرف الذي أقصى ما يستطيعه، هو أن يقشعرّ ويرتجف، أمام رؤية الأجساد الأخرى وهي تُقطَّع وتباع في سوق النخاسة والسياسة والصفقات. أقصى ما يستطيعه، هذا الجسد، أن يتقلّب خائراً في سرير الكوابيس، التي تتراكم عليه كما الأصداف على السفن القديمة في قعر المحيط. خواء وخراء وهراء وعراء. هذا الجسد لا أحتاجه. هذا الكيل الطافح سأرميه بكامل قوتي على صخرة الحقيقة الصلدة، وأحطّمه كإناء زجاجي هشّ، ليتناثر هباءً، ويندلق محتواه.
… ثم سأُحضر المسجلة القديمة، وأضع فيها شريطاً قديماً لفيروز، أضغط زر “بلاي” وأسمع تكّته. أصبّ كأساً وأسمع فرقعة قطع الجليد حين احتكاكها مع الويسكي. أعبّ من الكأس واملأ جسدي الجديد كحولاً صافياً، ثم أشعل سيجارة واستمع إلى صوت ملامسة النار لنثرات التبغ والورق. أمجّ منها مجّة عميقة أملأ فيها خواء صدري، وأنفث عصفوره السجين بزفرة طويلة، فيرتفع عالياً عصفوري الأزرق في سماء زرقاء، ثم أدندن مع الأغنية: ضاق خلقي يا صبي من هالجو العصبي ضاق خلقي ضاق خلقي…
النهار