صفحات سورية

ضد الطغاة وضد الغزاة/ د. رياض نعسان أغا

ما أسوأ أن تمتحن الشعوب في أن تختار أحد الجحيمين «الطغاة أو الغزاة»، ولعل أسوأ ما ستخبئه الذاكرة السورية للمستقبل أنها عانت من هذا الامتحان يوم تابع السوريون تمثيلية الضربة الأميركية، التي لعب بها الغرب بأعصاب السوريين، فمنهم من خشي أن تكون حقيقة -وأنا منهم- فتدمر ما تبقى من سوريا، ومنهم من أراد أن تكون حقيقة فتخلص السوريون من الطغاة ولكنها كانت ستحل محلهم الغزاة، وأفهم جيداً أن الذين أرادو التدخل الأجنبي ليسوا خونة وإنما هم صرعوا بما يلاقي الشعب من تدمير وتذبيح وتشريد وتجويع ثم جاء القتل بالكيماوي ليجعل الناس يستجيرون من الرمضاء بالنار.

والمصيبة الكبرى التي حلت بالسوريين بعد تمثيلية الضربة أن سوريا وقعت بيد الغزاة من دون أن تتخلص من الطغاة، فالمفتشون الدوليون يسرحون ويمرحون ويدمرون السلاح الاستراتيجي لسوريا، ويوحي بعضهم اليوم بأن السلاح الذي سيليه هو الأسلحة الصاروخية المتوسطة وبعيدة المدى، وهكذا سيتم ابتزاز النظام حتى تتم تعريته نهائياً من كل أسلحته وقواه، وبذات الوقت يقوم الطغاة بتصعيد حملتهم للقضاء على الشعب، بذريعة محاربة الإرهاب التي أصبحت هدفاً يلتقي عنده الجميع، وتطرح من أجله كل الخلافات، ويدفع الشعب السوري وحده ثمن الحرب على الإرهاب، التي تهدد بزيادة عدد النازحين وتتوقع الجهات الدولية المتابعة أن يتدفق مليونا لاجئ جديد إلى الخارج، وأن تشرد في الداخل ملايين أخرى يتنقلون في العراء بحثاً عن مكان آمن.

وكما أنني لا أستبعد أن تكون جريمة الكيماوي في الغوطة قد اصطنعت ذريعة لإجبار سوريا على تسليم أسلحتها الكيماوية الاستراتيجية، فإنني لا أستبعد كذلك أن تكون جيوش الإرهاب مصطنعة أيضاً من أجل تدمير سوريا بشكل قانوني وبشرعية دولية، بهدف سحق السوريين وإعادتهم إلى عصور التخلف والانحطاط بل بهدف إخراجهم من التاريخ ومن المستقبل.

ولاشك في أن الدول الكبرى تعرف يقيناً من استخدم الكيماوي وقد أعلن بعضها أنها تملك كل الوثائق من صور فضائية ومن مكالمات صوتية ومن معلومات استخبارية تدل على الفاعل، وكذلك لاشك في أن هذه الدول تعرف جيداً من أين يتدفق الإرهابيون ومن يسهل لهم مهمتهم، ومن يدعمهم بالمال والسلاح، وليس بعيداً أن بعض من يحاربهم علناً هو ذاته من يمدهم في السر، ويغذيهم ويجعلهم يفتكون بمستقبل سوريا.

ولا أنكر براعة خطة تحويل الثورة السورية الشعبية التي نادت بمطالب الحرية والكرامة والسعي إلى دولة مدنية ديمقراطية، إلى حرب دولية كبرى ضد التطرف والإرهاب.

وقد نجحت الخطة، وضاعت الثورة، وصار بعض ثوار الأمس أمراء حرب، وبات الشعب المشرد ينظر حوله فلا يعرف إلى أية جهة يميل، وقد اختلط الحابل بالنابل كما يقال، وكان من مفارقات يوميات الثورة أن يتوجه بعض الخطاب الثوري الشعبي إلى نقد المعارضة السياسية في الخارج، وأن يصير الهدف هو إسقاطها بدل إسقاط النظام، وأن تتغير بوصلة الصراع الدموي فتنشأ خريطة جديدة للقتال، ويجد الثوار أنفسهم محاصرين من جيش النظام ومن الإرهابيين معاً، وأن يتحول الحراك السياسي الدولي من موقف الوسيط الباحث عن إطفاء النيران، إلى دور الآمر الناهي المهتم بمصالحه ومصالح إسرائيل غير معني بملايين المشردين من السوريين.

ومع تقديري الكبير لما يقدمه الإخوة العرب من مساعدات ومعونات لأشقائهم السوريين في المخيمات وفي شتات النزوح، وما قدمه أصدقاء سوريا جميعاً، إلا أن المأساة أكبر من كل المساعدات، وها هو الشتاء القادم ينذر بأن يكون الجوع والبرد أخطر من الأسلحة الكيماوية والصاروخية، وثمة شعار جديد يعلنه «الشبيحة» اليوم هو «الجوع أو الركوع».

والحديث عن حلول جنيف تبدو ملهاة في ظل إصرار النظام على رفض الحوار مع المعارضة في الخارج، وفي إصرار روسيا وإيران على تحقيق انتصار النظام على شعبه، وفي إصرار الولايات المتحدة على تأمين مستقبل إسرائيل من دون أن يعنيها أمر آخر.

وبما أن اللعب الدولي قد صار على المكشوف بعد أن تأكد ما كنا نرتاب فيه من حقيقة أن الخلافات السياسية بين الولايات المتحدة وروسيا حول سوريا ومواقف «الفيتو» الشهيرة في مجلس الأمن، كانت من المتفق عليه بما في ذلك تهويمات الضربة الأميركية، فإن الخطر الأكبر الذي يمكن أن نواجهه هو تغييب الدور العربي، وتحويله إلى دور هامشي استعراضي يدعى ضيفاً في جلسات ترتيب المستقبل، من دون أن يكون له رأي يسمع أو يطاع.

وليس سراً أن مسرح العرائس الدموي الذي نتابعه الآن تحرك خيوطه باقتدار ومن خلف ستار، قوى الصهيونية العالمية، والخطر أن تكون وحدها الرابحة في قطف جنى «الربيع العربي» الذي تحول عند العرب إلى شتاء موحل، سقطت فيه كل أحلام المتطلعين إلى الحرية والديمقراطية. وقد صار مفجعاً أن يتمزق النسيج القومي والوطني والاجتماعي العربي، وأن يسقط شعار الأمة العربية الواحدة في أوحال شعارات الطائفية البغيضة، وأن نجد عند بعض العرب ولاءات لإيران (مثلاً) أكبر من ولائهم لأشقائهم العرب، بدوافع مذهبية وطائفية، وأن نجد في سوريا من يعتبر السوريون شعوباً وليسوا شعباً واحداً، مع أن الثورة السورية في حقيقتها بعيدة كل البعد عن مرجعيات الأديان والطوائف، واختلاف الآراء والمواقف منها بين معارض ومؤيد على الصعيد السياسي هو على الغالب اختلاف في فهم وتحليل ما يجري في الساحة العربية، بدليل أن الاصطفاف مع النظام أو ضده لا ينطلق بالضرورة من العقائد الدينية أو الطائفية، ففي سوريا نجد بين أهل السنة مؤيدين للنظام يشكلون الحامل الأهم، وهم الذين يدافعون عن بقائه، بل هم جهاز «الشبيحة» في المحافظات ذات الأكثرية السنية، وقد بتنا نرى في الأسرة الواحدة هذا الشرخ الكبير، بل إن كثيراً من حالات الطلاق بين الأزواج قد حصلت بسبب اختلاف الموقف السياسي، وكثير من الإخوة في الأسرة الواحدة تمزقوا واقتتلوا بين مؤيد للنظام ومعارض له.

وأعتقد أن أخطر ما سيرثه الشعب السوري بعد مأساته هو هذا الشرخ الذي دمر العلاقات الإنسانية والوطنية، ولاسيما بعد أن دخل في متاهة اليأس، وبات يرى الموت بالسلاح الكيماوي أهون من الموت بسلاح الجوع الذي يستخدمه النظام في عقابه الجماعي للشعب الذي يصر على أن يبقى رافضاً العودة إلى حظيرة الطاعة العمياء حتى لو وقف العالم كله ضده.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى