ضميــر جمعــي لكــل الســوريين
حسام سفر
وضعت الثورة السورية البلاد كلها أمام حالة جديدة، وليست الأغنية السورية سوى تفصيل من التفاصيل الكثيرة للثورة التي انطلقت من كتابات أطفال درعا على الجدران، وتحولت إلى كامل الخريطة السورية، ما عدا بعض الاستثناءات، والتي هي في حقيقتها ليست بالاستثناء، وإذا كانت الأغنية قد رافقت الثورة منذ اندلاعها فذلك لأن الحنجرة السورية ـ وفي المقام الأول – أرادت أن تتأكد بأنها لم تصدأ بعد مرور حوالي نصف قرن من حكم البعث والعسكر والأمن وزواج السلطة بالثروة، وأخيراً ميليشيات الشبيحة.
نعم، الحنجرة السورية أرادت أن تعرف ما إذا كان بإمكانها أن تنشد غير نشيد البعث، أو ترديد شعار البعث في طوابير المدارس، ولهذا فقد قُدّر لهذه الحنجرة أن تنال شرف اقتلاعها على يد قوات الأمن، كما حصل مع مغني الثورة ابراهيم القاشوش، وأن تتحول إلى رمز راسخ في الوجدان السوري، وأظنها ستبقى طويلاً، و«ربما» إلى ما لانهاية.
وقد يكون من الصعب الحديث عن الأغنية السورية الجديدة، تلك التي تأسست بفعل الثورة، من دون العودة إلى بعض تفاصيل الواقع الفني والغنائي السوري، وهو واقع لا يمكن فهمه أو تحليله من غير العودة إلى معطيات الواقع العام في سوريا، وإلى محاولات الإقصاء المستمرة لكل ما هو خارج عن سيطرة الفضاء الرسمي، أي ذلك الفضاء الذي تحكمت فيه المؤسسة الإعلامية، وهي الواجهة غير المباشرة للنظام السوري.
بعد تسلم بشار الأسد للسلطة في العام 2000 أراد النظام أن يَدخل على خط الغناء، وأن يقدم بعض الأصوات التابعة له، وأن يدعمها، وقد وقع اختياره على المغني علي الديك، وهو اختيار لمن لا يعرف مدروس بدقة، بل بدقة زائدة عن الحد، كما هي الكثير من خيارات النظام، خاصة بما يتعلق بترسيخ حالة الانحطاط في المجتمع السوري.
كان المقترح الذي يقف وراء ظاهرة علي الديك، وغيره من الفنانين الذين استخدموا لهجة الساحل السوري يقضي بتحويل اللهجة التي عرفت بأنها لهجة السلطة إلى لهجة الغناء الشعبي، وقد كان معروفاً في سورية وخارجها أن لهجة السلطة هي لهجة أهل الساحل، وقد وصل الناس في ثمانينيات القرن الماضي إلى حالة اشمئزاز من هذه اللهجة، ليس لكونها تفتقد إلى الجماليات المطلوبة في التواصل، وإنما لكون السلطة، وتحديداً الأجهزة الأمنية، استخدمتها كجزء من سلاحها ضد باقي فئات الشعب.
نجح النظام إلى حد كبير في تسويق علي الديك، وغيره، محلياً وعربياً، وقد كان من المحظور على الصحافة السورية أن تتناول علي الديك بالنقد، وقد وصل الأمر إلى حد استدعاء أحد الصحافيين العاملين في أحد الأقسام الثقافية في واحدة من الجرائد الرسمية وإبلاغه بأن النيل نقدياً من علي الديك هو نيل من النظام نفسه، وقد كان ذلك إثر مقال كتبه الصحافي حول إسهام ظاهرة علي الديك في تدني الذوق الفني العام، وانحطاط مفهوم الأغنية الشعبية.
من جهة أخرى، كان مهرجان الأغنية السورية الذي كانت تنظمه وزارتا السياحة والثقافة مهرجاناً فارغاً من أي مضمون فني أو جمالي، وكان مفروضاً على المترشحين للمهرجان أن يسجلوا أغانيهم في استديوهات بعينها في دمشق وحلب، وأن يأخذوا كلمات الأغاني والألحان من أشخاص بعينهم، وهم «مبدعون» من الدرجة العاشرة، وهو ما يشير إليه بوضوح موت تلك الأغاني لحظة اختتام المهرجان.
ببساطة، لم تكن ما تسمى الأغنية السورية سوى ديكور يتم استخدامه حسب الطلب، أو مبرراً للنهب من قبل مسؤولي بعض المؤسسات المعنية بالثقافة والفن، أو تمريراً لخطط تتكامل مع الرؤية السياسية للنظام، ولتوجهاته، ولم يكن ذلك عبثاً، فالأغنية هي الرغيف الطازج الذي يتناوله الشعب في أصبوحاته، وليس عجباً أن تبقى أغاني السيدة فيروز تفتتح صباح السوريين في البيوت أو وسائل النقل العام «السرفيس»، فلم يكن لديهم غيرها من أغانٍ تسد رمق جوعهم الفني في الصباح.
يا حيف
الأغنية السورية الجديدة ولدت من رحم الثورة، ولم يكن مخطط لها، ولم تنتج من أجل التربح المادي، ولم تمر على مطابخ المؤسسات الفنية والإعلامية السورية، وإنما خرجت لتقول كم يحتاج الإنسان السوري إلى غناء يجعل من تقبل الموت اليومي والمجازر المرتكبة بحقه أمراً ممكناً، وليس عجباً أن يكون لأغنية «يا حيف» التي حاكى فيها سميح شقير ما جرى لأطفال درعا ذلك الوقع الكبير لدى السوريين، ومناصري ثورتهم، فقد قالت ووثقت غناءً السبب المباشر الذي انطلقت به الثورة، تلك الأغنية التي تقول: «زخ رصاص على الناس العزل يا حيف.. أطفال بعمر الورد تعتقلن كيف.. يا حيف».
تناقل السوريون أغنية سميح بسرعة داخل سورية وخارجها، فقد عبّرت ومن دون تحليلات كثيرة، وربما، لخصت الحالة السورية بأكملها، حيث لم يتوانَ النظام الأمني عن اعتقال بضعة أطفال كتبوا على الجدران: الشعب يريد إسقاط النظام، واستقبل السوريون في المغتربات الأغنية بالكثير من التفاعل، وفي الأسباب يمكن أن نجد أن السوري المغترب قد شعر بأنه أيضاً متخاذل لعدم وجوده في هذه اللحظة في بلده للوقوف إلى جانب أهله، وثانياً لأن سميح شقير يتمتع بمصداقية كبيرة، ويشهد له تاريخه في الغناء الملتزم، كما أن عفوية اللحن وعدم اللجوء إلى التوزيع الموسيقي واستخدام الكثير من الآلات الموسيقية، والاكتفاء بآلة العود للمرافقة مع الغناء، وما تمتلكه هذه الآلة في الذاكرة السورية والعربية عموما من تأثير، كل تلك العوامل جعلت من الأغنية مقدمة كبيرة استفادت منها الأغنية السورية الجديدة.
واليوم، يمكن لنا أن نسترجع تفاصيل الثورة السورية عبر الأغنية، ويكفي لمن يريد فعل ذلك أن يكتب على محرك البحث غوغل «أغاني الثورة السورية» حتى يتمكن من سماع العشرات وربما المئات من الأغاني التي أرشفت الثورة، ورافقت تفاصيلها، ومحطاتها، كما يمكن ملاحظة أن الكلمة والصدق قد لعبا دور البطولة في هذه الأغنية، وقد عبّرت الأغنية الجديدة عن مطالب المتظاهرين، كما عبّر بعضها عن اللحظة التاريخية الجديدة، وهو ما يأتي في أغنية ابراهيم القاشوش التي تقول من دون مواربة: «تضرب أنت وهالخِطاب… الحرية صارت ع الباب»، وأصبحت مفردة الحرية هي الكلمة السحرية الموجودة في جميع أغاني الثورة، وليس هذا أمراً مستغرباً بالنسبة لشعب أطلق على ثورته اسم ثورة الحرية والكرامة.
أغنية كل سوريا
من جهة أخرى، فقد خرجت من رحم الثورة وهول المأساة أغنية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أغنية سورية بامتياز، أغنية لا لبس في هويتها، تنتمي إلى كل مناطق سوريا مهما كانت اللهجة التي تُغنى بها، وقد تضمنت الكثير من الأغاني أسماء البلدات والمدن السورية، وأصبح ابن حمص يغني لدرعا والقامشلي وحماة والرقة ودير الزور وإدلب وكل المدن الأخرى، ولا عجب فقد وحدت الثورة السوريين، وأتت الأغنية لتعكس تلك الوحدة، وما هو مهم أيضاً أن أسماء تلك المدن والبلدات أصبحت، وللمرة الأولى، ملكاً لجميع السوريين، فقد كان أبناء المحافظات سابقاً يغنون لمدنهم وحدها، واليوم صار الوطن واحداً في الأغنية، وقبل ذلك في الواقع نفسه.
أسماء كثيرة عرفها السوريون خلال العام المنصرم من عمر الثورة، ومنها عبد الباسط الساروت، ومالك الجندلي، وخاطر ضوا، ويحيى حوى، وغيرهم الكثير، وقد حوّل بعضهم أغنياته إلى فيديو كليب، مستخدماً مشاهد المظاهرات والقصف والاعتقال وتشييع الشهداء، وصارت جزءاً لا يتجزأ من حياة السوريين داخل سوريا وخارجها، واللافت أن هذه الأغنيات إما أنها أصبحت جزءاً من طقس المظاهرة نفسه، كما في حالة عبد الباسط الساروت الذي يرافق المظاهرة بصوته، وقد تابعه المشاهدون في أكثر من مظاهرة وهو يغني، بينما يردد المتظاهرون معه.
وفي السياق نفسه، فإن الأغنية الجديدة تتحدى الكثير من التحليلات التي تقول بالانقسام الطائفي في سوريا، فهي قد مالت إلى صيغة الوطن في حالته الجمعية، وقد عكست بذلك أحد أهم الشعارات التي انطلقت في بداية الثورة «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد»، ولم تنجرّ الأغنية بما تمتلكه من قوة تأثير في الوجدان إلى بعض الخطابات التي حاولت اللعب على الوتر الطائفي أو المناطقي، وبقيت خارج كل التجاذبات، وأكدت بذلك أنها ضميرٌ جمعيٌ لكل السوريين.
ولم ينسَ بعض الأغاني التأكيد بعفويته على ارتباط سوريا بفضائها العربي، وهو ما تعكسه بقوة واحدة من أغاني الساروت «جنة جنة جنة سوريا يا وطنا»، والتي تقول: «حمص يا ام العروبة»، وهو تأكيد يحمل في طياته ردأ واضحاً على مقولات النظام بأن الثورة ليست سوى مؤامرة لإسقاط نظام الممانعة، وهكذا فإن الأغنية السورية على الرغم من كونها متأثرة مباشرة بالحدث اليومي، لكنها تعكس أيضاً الذاكرة السورية في بعدها التاريخي والحضاري، وارتباط هذه الذاكرة بحاضنتها العربية.
وفي سياق آخر، لكنه سياق مرتبط بالذاكرة والوجدان السوريين فقد استعادت الأغنية الجديدة ألحانها التراثية، وقد غيّر المتظاهرون كلمات الكثير من الأغاني التراثية، واستبدلوها بكلمات مرتبطة بالثورة، خاصة الأغنيات ذات الألحان الشجية والحزينة، كما في الأغنية التراثية «سكابا يا دموع العين سكابا»، وقد أصبحت لهذه الأغنية مكانة محورية في تشييع الشهداء، حيث يغني المشيعون: «سكابا يا دموع العين سكابا.. على شهدا سوريا وشبابا».
من الطبيعي بمكان أن يستعيد السوريون تراثهم الفني، فهو تراث حفظته الأجيال وتناقلته من جيل إلى آخر، ولكل واحدة من تلك الألحان التراثية ارتباطات نفسية معينة، ونتيجة لكون السوريين لم يعيشوا خلال القرن العشرين مناخات الحرية باستثناء فترة الخمسينيات فقد ظلوا محافظين على إرثهم في صدورهم، وفي خزان ذاكرتهم، كمن خبأ قرشه الأبيض ليومه الأسود، هكذا فعل السوريون، فقد أخرجوا أغانيهم الجميلة ليواجهوا فيها الموت وآلة القتل، ولتعنْهم في تحمل آلام فقدان الأحبة.
الأغنية السورية الجديدة فيها التوق إلى الحرية، وفيها الحزن، وفيها حب الوطن من دون تمييز بين منطقة وأخرى، وفيها تحدي الظلم والظالم، وهي مشبّعة بالواقع السوري الجديد، وتخاطب كل السوريين، وفيها توحيد للذاكرة والمكان السوريين، وهي بكل ذلك تستعيد هويتها، وهي قبل كل ذلك أيضاً تأخذ على عاتقها أن تكون شريكاً في عملية التغيير التي تشهدها سورية.
لقد أخرجت الأغنية السورية الجديدة من ساحتها كل التلفيقيين، وكل من مارس على هذه الأغنية ممارسات العسف، وكل من سرق قوتها ونبضها، وكل من أسهم في تهميشها، وجعلها خارج إطار الفعل الحياتي والثقافي والجمالي، وكرست مبادئ جديدة للأغنية السورية، وفكّت أسرها من قيد المؤسسات، وأعادتها إلى صيغتها الأصلية كتعبير عن الناس.. عن حياتهم وموتهم، وعن آلامهم وطموحاتهم، وعن قوة الحياة نفسها، وعن إرادتهم في الوجود، وقبل وبعد كل ذلك صارت ملكاً للجميع من دون وصايات، أي أعادتها ـ باختصار ومن دون كثير كلام – إلى فضاء الحرية.
(كاتب سوري)
السفير