طائفية الحرب السورية: ذهنية الانكار/ مازن عزي
لغط كبير يرافق كل مفترق تقف أمامه الثورة السورية: فالفصائل الإسلامية السنية المقاتلة، بشتى تلويناتها الجهادية، أصبحت محرك الثورة. في حين يمارس طيف واسع من المعارضة السياسية ونشطاء ومناصري الثورة، فعل الوصاية، عبر فرض تصورهم الثوري للحدث السوري. انكار إسلامية الثورة من قبل جمهور مناصريها، والاصرار على رفض كل ما يصدر عنها، له دلالة بسنيتها، يترافق في الوقت ذاته، بانكار المحور الممانع، لسنية الفصائل المقاتلة، لصالح إرهابهم أو تكفيريتهم. ولأن فعل الثورة-الحرب صار مقاداً من الفصائل الاسلامية السنية، وفعل مقاومته مقاداً من الممانعة الشيعية، فلم يبق لأطياف المعارضة السياسية والأنصار والمراقبين سوى ممارسة فعل الوصاية والتأطير. هذا الفصام بين الواقع والتصور، بات أكبر من إمكانية تجسيره، لذا صار اللغط هو السائد.
الفصائل السنية أطلقت على معركة السيطرة على كلية المدفعية في ريف حلب الجنوبي، اسم “غزوة ابراهيم اليوسف”، الأمر الذي خضع لإدانة واستنكار المعارضة، لما تحمله مجزرة مدرسة المدفعية، من ذكرى طائفية.
وكان ضابط الأمن والمسؤول الحزبي في “مدرسة المدفعية” النقيب إبراهيم اليوسف، من تادف في ريف حلب، والمنتمي لـ”الطليعة المقاتلة”، قد قام في حزيران 1979، بتنفيذ أكبر ضربة ضد النظام، حتى ذلك التاريخ. العملية راح ضحيتها 31 طالباً عسكرياً علوياً، بسبب هويتهم المذهبية، لا نتيجة أفعال قاموا بها. اليوسف كان قد طلب من الطلاب السنّة مغادرة قاعة الاجتماع، ثم قام بمشاركة حسني عابو و10 أعضاء من “الطليعة المقاتلة”، بقتل الطلاب الضباط العلويين.
مجزرة “مدرسة المدفعية”، كانت أبرز عملية تصفية طائفية تقوم بها “الطليعة المقاتلة” في سياق الصراع بين النظام و”الإخوان المسلمين”، والتي امتدت لبضعة أعوام بين نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات. العملية كانت لحظة مهمة في وعي الجماعة السنية لذاتها كطرف مستبعد من السلطة في سوريا البعث، ومستعد لمشاركة النظام لعبة العنف الطائفي لاستعادة موقع في السلطة يتناسب مع حجمه البشري. قبل تلك اللحظة كانت قد بدأت عملية الفرز الذاتي الطائفي في القاعدة الاجتماعية للجماعة السنية، من موقع التناقض مع النظام الذي أتم فرزه الطائفي من الأعلى. فرز ذاتي للمهمشين، في إطار تجميع القوى ضمن صراع أخذ شكله الطائفي، بشكل نهائي.
اللحظة كانت مركزية في الوعي السني لمظلوميته، في مواجهة نظام تأكدت بالنسبة له، طائفيته، وتم وصفه منذ ذلك التاريخ بـ”النصيري” و”العلوي”. المجزرة، ورغم أنها فتحت أبواب الجحيم ضد “الإخوان”، وساعدت النظام في تثبيت هيمنته على المجتمع السوري عموماً، إلا أنها كانت تأسيساً لعنف الفعل الطائفي في سوريا. فما كان يعتمل قبل ذلك تحت السطح، بات علنياً، والهمس عن طائفية الصراع، صار كلاماً مباشراً.
في كل الأحوال، بدت تلك اللحظة تأسيسية، للعلاقة العنفية، بين “النظام العلوي” و”معارضيه السنّة”، في خسارة كبرى للقضية الوطنية، تمثلت بتراجع التركيز على الطابع الشمولي للنظام والديموقراطي للمعارضة، لصالح بؤرية الصراع الطائفي. النظام وإن نجح في كسب الحرب ضد الجماعة السنية منذ أواسط الثمانينيات، إلا أن شكل العلاقة بينهما، ستنصبغ من حينها، بالرفض العنفي المتبادل، والرضوخ للأقوى. وستظل الدينامية الداخلية للعلاقة بين الطرفين، محكومة بالعنف الطائفي.
تلك اللحظة التأسيسية في علاقة العنف الطائفي، بين النظام والجماعة السنية، يريد مناصرو الثورة الديموقراطيون وأدها، واعتبار تسمية معركة “مدرسة المدفعية” باسم “غزوة ابراهيم اليوسف”، عثرة، وقعت فيها المعارضة المسلحة. لكنها ليست بعثرة، بل خيار واع يدركه أصحابه، ويدركون رمزيته ويستثمرون فيه.
فصائل الجماعة السنية السورية المقاتلة، اليوم، وبتعميم قد يكون ظالماً، بكل تلاوينهم من السلفية الجهادية إلى الصوفية الجهادية، قد توصلت إلى توافق على تحديد ذاتها وعدوها، في سياق الحرب السورية. توافق على فهمها الذاتي لماهيتها، وماهية عدوها. ذلك الوعي الذاتي، الاشكالي، أعطى الجماعة السنية المقاتلة، وضوحاً ذاتياً في فهم موقعها في إطار الحرب ضد النظام وحلفائه. فـ”النظام يشن الحرب عليها بسبب ماهيتها السنية، وهي تشن حرباً معاكسة ضده، بسبب جوهره الشيعي-العلوي”. هكذا يمكن للطرفين، البحث عن عمق للصراع يتجدد منذ مئات السنين، بما يتجاوز القضايا الراهنة، كمسببات حقيقية للأزمة السورية، إلى ماهيات متخيلة، ذات قدرة على العود الأبدي.
في حروب كهذه، لا يمكن إخفاء مركزية الطائفية، وجاذبيتها؛ فالحرب طائفية، والمتقاتلون يحاربون بعضهم لأنهم يقفون في مواقع متناقضة، تمثل الشر المطلق لبعضها. في هذا النوع من الحروب، للماهيات حضور خاص، متجدد، أبدي، لا يمكن أن يكون إلا مولداً للمزيد من الاحتراب. ولا يمكن انتهاء هذا الطور الصراعي، إلا بتحقيق العدل الإلهي، الذي يتنازع أهليته طرفا النزاع. لذا ينتظر الشيعة ظهور المهدي، كتأكيد لمشروعية صراعهم مع السنة، الذين قد ينتظر بعضهم السفياني.
مقاتلو الجماعة السنية، يواجهون اليوم، مقاتلي الجماعة الشيعية، على أرضية “جهادية” مشتركة بين الطرفين. ذلك، ما يجعل من الحرب فعلاً نابذاً لأشكال الوعي الأخرى؛ من طبيعة الصراع الطبقية والاجتماعية/الاقتصادية، وحتى الوطنية. هذه البؤرية، لم تكن وليدة اللحظة، بل سعى إليها الطرفان، كإمتداد لحوادث الثمانينيات، وربما لحوادث الستينيات. في هذا الشكل الصراعي، تبدو القضايا الرئيسية الأخرى، من بناء الدولة وشكل النظام وطبيعة السلطة وأسئلة الديموقراطية والعدالة، إضافات شكلية، يعنى بها المراقبون فقط.
المركزي في وعي الطرفين، لم يعد يتعلق بهزيمة الآخر عسكرياً، بل بهزيمة مشروعه المذهبي أيضاً. ومع ذلك، فإن حرباً لا تقل ضراوة، تشتعل في الهامش، وتختص بالانكار. فالمعارضة السياسية تنكر “سنية” الفعل الثوري، لصالح اجماع سوري، سبق وانتفض ضد النظام، مطالباً بالحرية والديموقراطية، مطلع العام 2011. تلك الصورة الحنينية، باتت قيداً ثقيلاً على الحرب اليوم. فالمتقاتلون بالكاد يشبهون المتظاهرين الأوائل وقامعيهم الأوائل، بعد انهيار الإطار الوطني للصراع، ودخول أطراف إقليمية وعناصر جهادية فوق وطنية في متنه. تلك اللحظة الأولى للثورة السورية، أصبحت مؤسسة لما يشبه الأسطورة، رغم حقيقتها. لكن جريان مياه كثيرة في النهر، جعلت منها ما يشبه العبء على الصراع الحالي، كنقيض لما آلت إليه الأمور الآن.
ليس الحديث عن إنكار مناصري الثورة الديموقراطيين للواقع ترفاً، بل محاولة لقراءة الأحداث، كما هي، لا عبر اشباعها بالرغبة والتمني. فهل يمكن اليوم تسمية فصيل مقاتل واحد، غير مشترك في محكمة شرعية؟ وهل يمكن في البحث عن جوهر “الأسدية” انتاج وعي مخالف لواقع النظام الطائفي؟ واذا كانت “الأسدية” جوهراً خاصاً للنظام يتجاوز طائفيته، فماذا يمكن القول عن نظام صدام حسين المتشابه حد التطابق، وإن كان لصالح هيمنة السنة؟
انكار سنيّة الفصائل المقاتلة، من قبل هامش ثقافي أخلاقي، يصعب عليه تقبل الواقع ويصر على إعادة انتاج سياق مشتهى للصراع، صار ضيفاً ثقيلاً على الثورة. بل أصبح منغصاً لفهم الفصائل المتقاتلة لذاتها، عبر تذكيرها بما يفترض أن تكون عليه، لا بما هي فعلاً عليه. هنا تكمن مشكلة ذهنية الإنكار، وعقلية المنكرين، الناطقين عن الهوى؛ هواهم الشخصي، ورغبتهم في رواية حدث يشبههم. المشكلة في هذا الفصام بين العالمين، باتت تتجاوز القيم الأخلاقية التي يحملها مناصرو الثورة الديموقراطية، إلى انكارهم “ماهية” الثورة السنية في هذه اللحظة. وهي ماهية متخيلة خاضعة للتحول والتبدل، لكنها في هذه اللحظة من الصراع لا تعرف ذاتها إلا في إطار الانتصار للجماعة السنية.
ليس مناصرو الثورة الديموقراطيين، وحدهم من ينكر سنيّة الثورة وشيعية النظام، وطائفية الحرب. مليشيا “حزب الله” تفعل الشيء ذاته، فترفض تسمية الفصائل باسمائها، أو حتى توصيفهم بالسنية أو بالإسلامية. هم مجرد تكفيريين أو إرهابيين. تسميات وأوصاف لا تخدع، إلا أنها تؤكد وجود ذهنية الانكار لدى طرف الحرب الطائفية الآخر، الجماعة الشيعية وحلفائها.
قبل أيام، ادعى “حزب الله” كذباً، أن غارة اسرائيلية استهدفت قافلة لمقاتليه بالقرب من دمشق. الحزب الإلهي لا يرفض أن يعترف بسقوط قتلى له أمام “التكفيريين” فقط، بل يشتهي موت مقاتليه أمام “اليهود”. ذلك ارحم له. لكنه عدا عن انكار أهلية الفصائل السنية بالحاق خسائر فادحة في صفوفه، فالحزب يمارس طقساً غرائبياً، يشتهي الموت فيه أمام عدو جبار اسرائيلي ويرفضه أمام مجموعة سنية يحتقرها. احتقار السنّة يرافقه التذلل أمام اسرائيل. احتقار لطرف لا يستقيم من دون تذلل أمام طرف آخر.
كيف لا و”حزب الله” لا يرى في فصائل المعارضة السنية سوى آكلي قلوب ونابشي قبور. فالحزب، ومن خلفه نظام “الولي الفقيه”، دخل لحماية مراقد الشيعة من السنة، وتحت شعار “كي لا تسبى زينب مرتين” من السنّة. فكان الحزب بذلك، من مريدي تطييف الصراع، وتحويله من إطار الوطنية السورية، إلى تلبية ثارات الحسن والحسين من أحفاد يزيد بن معاوية. ومع ذلك، فهم مجرد تكفيريين إرهابيين. إبطان لعمق تاريخي، لا يمكن في أحسن الأحوال توصيفه، إلا بالمختلق والمتخيل، إلا أنه صار جزءاً من سردية الصراع في سوريا.
ذهنية اﻹنكار لطائفية الصراع، صارت عبئا ثقيلا على المتقاتلين. فمحاولة اسباغ معان مغايرة، والبحث عن أسباب اقتصادية/اجتماعية للنزاع، تنطلق من الريف/المدينة أو الطبيعة الطبقية السيالة للمجتمع السوري قبل الحرب، على قدر أهميتها وضرورتها، إلا أنها تغفل رمزية الصراع، والقدرية التي يؤمن بها المتحاربون. فالجهاد، بحسب فهم أطياف المتقاتلين السنة والشيعة، هو ﻹحقاق الحق وإقامة العدل، والتعجيل بالفرج اﻹلهي. رمزية أصبحت دافعاً رئيساً للمتقاتلين، صانعي الحرب. وانكار دوافعهم، هو الاصرار على إسطورة موازية، لا تقل تزييفاً عن رواية المتقاتلين.
الاقرار بطائفية الحرب السورية، ليس إهانة للحدث، بل محاولة لقراءة محتواه في سياقه. فالسنوات الماضية حفلت بقراءات تنتصر للسياق ضد المحتوى، ما جعل منها تأسيسأ لحدث يكاد يكون مغايراً. طائفية الصراع ليست عيباً، إذا اقتنعنا بأنها شكل للسياسة في المنطقة، منذ إقامة الدولة الاسلامية الأموية. فالقبلية والطائفية والعصبية، لم تكن يوماً معياراً قيمياً للتخلف، إلا في إطار قراءة القوميين العرب الحديثة للتاريخ العربي الإسلامي. قراءة مجانبة للحقيقة، ردت أسباب التخلف المعاصر، إلى عناصر مولدة لديناميات السياسة العربية-الإسلامية، من دون أن تقيم على ذلك برهاناً. وما ذلك إلا اسقاط للنموذج الألماني/البروسي على الواقع العربي. ذلك النموذج الذي يرى في الأمة الموحدة نموذجاً مشتهى، تعبر عنه الدولة في أقصى تجلياته. نموذج القوميين العرب المشتهى، تطور إلى سيطرة النازية على ألمانيا، والتي رأت في جميع الأعراق غير الجرمانية، انحطاطاً.
ذهنية الإنكار المعاصرة، تحمل وعيا قومياً مضمراً، يكاد يكون بعثياً، في الرهان على أن إنكار الطائفية هو السبيل لانتاج واقع مختلف. لكن محتوى الصراع الطائفي يفيض عن قدرة هذا السياق المختلق لضبطه. فتبدو الثورة مريضة بالطائفية العنفية، ما يجعل مناصريها مهجوسين بالتبرير والدفاع، وإعادة تفسير الأمور وردها إلى عناصر أخرى. أعراض يتم تصويرها كمرض تُقدّمُ موجبات التخلص منه، عبر كنسه وتخبئته تحت سجادة.. الصلاة.
المدن