طبقات الرُّؤيا في قصيدة: (السُّيول تجتاح سلميَة) للشّاعر السُّوري علي الجندي/ د. مازن أكثم سليمان
تُعرَّفُ الحداثةُ الشِّعريّة بأنَّها رؤيا, وتسعى إلى تحقيق كشفٍ يتجاوز الواقِعَ المُتحوِّلَ وعناصره الجزئيّة, باكتناه رؤيا كُلِّيّة تبثُّها تجربة جماليّة شاملة, إذ يتمُّ نزع ألفة العالم الوقائعيّ بخلخلة منظومات روابطه, وتغيير مفاهيمه الاعتياديّة السّاكنة, ثُمَّ بإعادة تركيبه وخلقه مجازياً في حركيّةٍ يُفترَضُ أن تقبض على الثابت انطلاقاً من المُتحوِّل, وتكشف للمتلقي ما لَم يَره من قَبْل.
وفي هذا المنحى, كان الشاعر السوري الرّاحل علي الجندي واحداً من أهمّ مهندسي القصيدة الحديثة منذ ستينيّات القرن الماضي, مُرسِّخاً في حياته وشعره صورة الشاعر الرائي – الملعون الذي يستطيعُ في أحيانٍ كثيرة أن يبعثر وَحدة المحيط الوقائعي في وجهِ الآمنينَ المُطمئنّين إليه, وذلكَ بتمزيق بناه المنسجمة وتفتيتها, أو ربَّما بإطلاق نبوءةٍ شعرية في ديوانٍ هنا, أو قصيدة هناك.
ولعلَّ قصيدتَهُ الشَّهيرة (السُّيول تجتاح سلميَة) المنشورة في نهاية ديوانه (النَّزف تحتَ الجلد) الصّادر في دمشق عام 1978, من القصائد المُتجدِّدة باستمرار؛ بمعنى أنَّ المستوى الدلالي فيها يتَّصف بالانفتاح الزمكاني على المجهول, إذ لا تكفُّ الطّاقة الفنية العارمة في هذه القصيدة عن تخليق حقول دلاليّة ثرّة كلما تقاطع فيها المستويان المَجازيّ والجَماليّ مع الفضاء الرُّؤيويّ, فانكشفَ عالَمٌ جديد غير مألوف, منطوياً على رؤيا شعريّة ترتقي إلى حدِّ النبوءة التي لا يستطيعُ المُتمعِّن في رموز الشعر ودلالاته أن يشيحَ بوجهه عن إيحاءاتها الرّاسخة العميقة.
قال الشاعر علي الجندي في افتتاحية القصيدة:
(( .. تنامُ سلَمْيَةُ وادعة في الخريف الشفيفْ, / تنامُ على شرفة الباديهْ, / وأبناؤها يرقبون حقولَ المواسم كل صباح بحُبٍّ.. / وينتظرونَ أسابيعها الباقيهْ, / يروحون صبحاً, / يعودون عند المساء, / ينامون.. / أحلامهم لا تروِّض جوعاً قديماً وقهراً وخوفاً من العاديات.. / ولكنَّهم يحلمون! / وتمضي لياليّهم في أحاديث خاويهْ / تباعدهم عن حقيقة أفكارهم والمشاعر.. / لكنهم يسهرون.. )).
تتحرَّكُ على السَّطح البصَريّ الخارجيّ لهذه الافتتاحية الحياةُ بسيرورتها الطَّبيعيّة, غيرَ أن الحفرَ في عُمقها البصَريّ يكشفُ أسئلةً سوفَ تُجيب عنها هذه المقارَبةُ رويداً رويداً, فنومُ السلمية (وهيَ بلدةُ الشاعر) وادعةً في الخريف الشفيف, وارتقابُ أبنائها حقولَ المواسم بحُبّ, وانتظارهم أسابيعَ طويلة وهم يحلمون, لم يمنح البنية الزمكانية للنَّصّ مَعالِم استقرار وسُكون, بقدر ما شرَّعَ أبواباً عظيمة لشكوكٍ تدعو للتأمُّل المُخيف, ذلكَ أن أحلام أهل السلمية لا تُروِّضُ جوعاً قديماً أو قهراً أو خوفاً من العاديات, وأحاديثهم في السَّهر الطويل أحاديث خاوية تُشكِّلُ حجاباً يباعِدُ بينهم وبين حقيقة أفكارهم ومشاعرهم المسكوت عنها, أكثر مما تُفصِحُ وتُعرِّي وتكشُف!
إنَّ الإحالة الرَّمزيّة الأوّليّة لطبقات الرؤيا في هذه القصيدة ترتبط جوهرياً بالمرجعية الدلاليّة المتأصِّلة والكامنة في الانسحاق التّاريخيّ بمعناه العام, فأحلامُ أهل السلمية تعجز وحدها عن منع تأبيد القهر والخوف والعجز التاريخيّ, والهروب إلى ما يبدو أنَّهُ حياة طبيعيّة ليس سوى سقوط فاضح في هُوَّة عميقة زائفة, لا تُفضي مطلقاً إلى مُواجهةٍ أصيلة لاشتثاث ما يراه الشاعر امتداداً لخلل قديم مُؤبَّد لم يجد حلاً له بعد!!.
وائتلافاً مع هذا التّأسيس، يلي افتتاحيّةَ القصيدة مباشرةً مقطعٌ يبسطُ رؤيا شعرية سوداويّة, يتنبّأ الشّاعر في خضمِّها – ودونما مواربة – بحلول كارثة باغية مشؤومة, لا يبدو أنَّها تتعلَّقُ بمسألة انتظار الحقول العطشى للغيوم الماطرة كما توحي الدَّلالةُ للوهلة الأولى, ولا تقف عند حدود مسألة الجفاف كما يُشيرُ التَّقليبُ التَّأويليُّ المُتفحِّصُ لبنية الرؤيا. قال علي الجندي:
((-.. آهِ مدينة أيامي الخاليهْ, / وعاصمة الحزن والأمنيات الصَّبيّة.. / آهِ, كبرنا على الحلم.. أنتِ لم تكبري.. / والرزايا التي تتوالى عليكِ تُنيخُ الجِمال, – / وهاهي مقبلة فاستعدِّي لكارثة باغيه!.. / فالخريف المبكر فألٌ رديء.. / وريحُ الغروب نذير من الشؤم.. / إنَّ غراس الحقول تولول في صمتها باكيه.. / وهذي الغيوم المطيفة تُوحي بعاصفة آتيه..)).
إنَّ محاولة الشاعر أن يُوحيَ للمتلقِّي في هذا السِّياق أنَّ المسألة مسألةُ جفاف وحقول ومواسم, تصطدم على نحوٍ مباشَر بالفَجوة الدّلالية التي يُولِّدها جموحُهُ الرُّؤيوي المُتشائم, وهو الأمرُ الذي يدفَعُ المُؤوِّلَ – بعدَ ذلك – كي يحذر في كيفيات تلقِّيهِ المَشاهِدَ الاحتفاليّة بالمطر بوصفِهِ عاملَ خلقٍ وإحياء وبعث, ذلكَ أنَّ الشاعر لم يُوردها كما يبدو إلا ليزيدَ شرخ الانزياح الدلاليّ عمقاً, ويُبعثِرَ المعنى في دوامة تضادّ عنيف بين حالتين هُما على النَّقيض تماماً كما سنرى. قال الشاعر:
(( كل البيوت تسقسق بالماء.. / تصرخ كل الميازيب ناسية بؤسها في الشهور الطويلة.. / تشدو بموّالها فتردِّدُهُ عتباتُ البيوت ووحل الأزقة / – ها هو عرسُ المساكب..- / والبرقُ يكشف وجه الكآبة كيف يذوب, / ونقرُ المطرْ, / على كلِّ سقف يتمتم حتى الصباح… / و.. تصحو من الفجر زقزقة ملء كلّ المدينة, / يصحو الصغار, / يفيقُ الكبار, / الشوارع ناشطة بالمياه, / الأزقة مغسولة بالسَّواقي الصغيرة, / يعدو الصِّغار إلى الماء, / مثل فراخ الإوز يخوضونَ في الطرقات الغريقة )).
وهكذا, يستمرُّ سحُّ المطر, لكنُّ كبار القوم قلقونَ خائفونَ ينتابهم الشَّكُّ المُستمدُّ من خبرتهم بالطبيعة وتقلُّباتها, ومعرفتهم بأحداث مُماثلة مرَّتْ قبلَ سنين طويلة. وهُنا تتجاوزُ الإحالةُ الدلاليّة مرجعية الطبيعة فحسب, مانحةً المتلقي خيطاً رمزياً بالغَ الأهمية في بناء طبقات الرؤيا, وهو يتمثَّلُ بالإحالة إلى مرجعيّة التاريخ. قال الشاعر:
(( ما زالَ شلال ماء الغيوم يهلّ, / الرجالُ الكبارُ يخافون, ينظرُ بعضهم في العُيون: / لقد مرَّ ذلكَ قبل سنين طويلهْ!)).
وبهذه الصورة, يُمهِّدُ الشاعر لنقلته الرمزيّة الحاسمة داخل بنية الرؤيا مُؤكِّداً أن الخوف والقهر والعجز لطالما تحكَّموا بأهل السَّلمية جيلاً بعد جيل مُحوِّلينَ حياتهم إلى لعنةٍ أزلية لم يتخلَّصوا منها يوماً, وهذه اللَّعنة القديمة تتجاوز دلالة الخشية من الطبيعة إلى دلالة الخشية من الإنسان ذاته, ذلكَ أنَّها لا تُطابِقُ في معناها سوى لعنة التاريخ نفسه, والذي – أي التّاريخ – لا ينفصل عن سيرورة الناس والاجتماع والسِّياسة, فهو بالتّأكيد ليسَ بنية متعالية معزولة, ولهذا يخافُ أهل السلمية عيون الضِّباع المُطيِّفة في البلدة الآمنة, لترمزَ على ما يبدو إلى غُزاةٍ أو أعداءٍ يتربِّصون بهم. قال علي الجندي:
((– نرى في العيون علائمَ خوف, / وممَّ تخافونَ يا جدَّنا غير غزو الجراد أو القحط والسنوات العجاف.. / – نخافُ؟ .. نخافُ كثيراً, / نخافُ من الريح والهمسات الخفية في الريح.. / نخشى عيون الضِّباع المطيفة بالبلدة الآمنهْ.. / نخافُ الثعالبَ والطيرَ والجنَّ والإنس / – .. تخافون – واأسفا.. – دائماً خائفون.. ولاشيء مما يخيف, لا / شيء إلا قلوبكم الشّائخهْ!)).
يُمثِّل هذا الخوف مركز الرؤيا وبؤرتها التأويليّة العميقة, ولا أريدُ في هذا المَوضِع أنْ أحمِّلَ النَّصَّ فوقَ ما يحتمِل، غير أنِّي سأكتفي بمُجاراة مَحدودة لتحميل الشّاعر النّاسَ ( أصحاب القلوب الشّائخة ) جزءاً من مسؤوليّة ماهُم عليه بفعل ذعرهم وعجزهم وغياب المُبادَرة البنّاءة. ويبدو أنَّ المحوريّ هُنا يكمنُ في انتقال الشاعر من مفهوم المطر بوصفه عامل الخير والخصب وإحياء الوجود إلى مفهوم السَّيل بوصفه عامل الهدم والتَّدمير والموت لكلّ أملٍ مُرتجى. قال علي الجندي:
(( وأسكت كل السؤالات صوت أجشّ تناهى من البعد, من صوب / ريح الشروق.. / صوت, يرفرف في الصمت, يخفقُ في الريح, يملأ كلَّ الفراغ.. / يجيء من الأرض, يزحف من جانب الأفق.. / – ماذا؟.. / – .. انتهى أمل الموسم المرتجى! / سيجرفُ كل الغراس التي تعبت منذ أشهر في غرسها يدُنا.. / – الجرادُ إذن؟ / – لا جراد.., انتهى خطرُ الحشرات التي كان يرسلها الريح من قلب / مكة والمشرقين.. / – إذن هو ريح الجنوب ويوم القيامهْ! / – اسمعوا صوته الرخو, / هذا خوار, زئير رهيب, رهيب.. / – .. سيجرف كل الزروع, تراب الحقول يحوِّله طحلباً والبيوت التي / يلتقيها سيجرفها.. / والخيام التعيسة إن لم تفرّ سيجرفها.. / والرجال, الخيول, الشياه.. ستلقونها فوق لجّته جثثاً!)).
ولكي يؤكد الشاعر ماهيّة الكارثة يُحمِّلُ السَّيلَ أبعاداً دمويّة تُغلِّفُ الرؤيا بمسافة توتُّر عنيف, وتقودُها رمزياً إلى النَّتائج السَّوداويّة التي لاتكفُّ عن العودة وتكرار الخراب. ولعلَّ هذه الإشارات الحاسِمة تدفَعُ التّأويلَ بكُلِّ ثقةٍ وطُمأنينة إلى إرجاع سبب ما يحدُث إلى الاستبداد التّاريخيّ المُتجذِّر، وإلا كيفَ نفسِّرُ الفَجوة الدَّلاليّة التي يخلُقها الشّاعر بينَ السَّيل والمَجزرة بقوله:
(( – .. هل, هو السيل؟.. / – .. إنه؛ لنقل إنَّهُ المجزره..! ))
ومِنَ الجديرَ بالقول في هذا السِّياق إنَّ علي الجندي لم يبنِ موقفه ورؤيته السوداء إلا بعد أن نضُجَتْ تجربته, فما قد جرى لم يعد من المُمكن ردعه كما يعتقد, ذلكَ أنَّهُ نتيجة لحلقة تاريخيّة مُفرغة، وما ستحمله السنون القادمة سيملأ فمَ المدينة بالدِّماء, وسيدفع أهلها إلى الهجرة منها، وهوَ الأمر الذي يملأ قلبَها بالذُّعر! قال الشاعر:
(( المدينةُ تسألكم عونكم؛ / المدينةُ عارية تستغيثُ بكُم يا رجال, / الذي قد جرى لم يعُدْ ممكناً ردعه, فلنحاول تفادي حدوث فواجع في المُقبِل المرتجى!.. : كسَّرتنا الفواجِعُ والخوفُ منها, / وقلبُ المدينة يستصرخُ الأوفياء, / وممتلئٌ فمها بالدماء, / وبالماء.. والقهر.. / مذعورة من تخيُّلكُم هاجريها, / فهل من مغيث؟! / .. ورانَ سكون مهيب هنيههْ؛ / وبعدَ قليل تفرَّقَ جمعُ الرِّجال,/ ولاحَتْ شراراتُ أعينهم تتصالب في الجوّ … / … كانَ على كلِّ وجه تعاسَةُ عصرٍ بأكمله.. / وخيبةُ مرحلة مُقبلهْ..!! )).
تُرى ألا تقودُنا هذه الرُّؤيا – النُّبوءة إلى ما يُصيبُ بلدةَ الشّاعر ( السَّلميَة ) من مصائبَ دمويّة في هذه الحقبة؟ ألا تقودُنا إلى الحالة السُّوريّة الرّاهنة على وجهٍ خاصّ، والحالة العربيّة على وجهٍ عام؟ ثُمَّ، أليسَ الاستبداد السِّياسيّ أصلاً مُتكرِّراً في جميع المَصائِب والكوارث العربيّة؟
إنَّ السّلمية وهيَ رمز الوطن في هذه القصيدة، وقناع الرُّؤيا، وحاملة الدّلالة، تقعُ تحتَ سطوة كارثةٍ تكشفُ في طيّاتها كُلّ تاريخ الاستبداد العربي المُتواصِل، ولهذا لم يستطع الشّاعر علي الجندي في مرحلة كتابة هذه القصيدة في أواخِر سبعينيّات القرن المنصرم أنْ يُنقذَ رؤاه من هُوّة التّشاؤم والسَّوداويّة، فالعصرُ الذي عرَفَهُ بما كانَ يحملُ من طموحات وأحلام عظيمة انتهى إلى خيبات عارمة، والعُقود المُقبلة كما تنبَّأ بها لن تحملَ معها سوى الخراب والانكسارات . لكِنْ: ماذا لَوْ لم يخطفِ الموتُ الشّاعرَ قبلَ عام 2011؟ ماذا لَوْ عاصَرَ هذه المرحلة الغنيّة والقاسية في آن؟ هل كان تأويلُهُ سيحملُ بُعداً أحاديّاً أم كانَ سيفتحُ لنا كُوّة أمَلٍ في جدار رُؤاه الصَّلْد المُغلَق؟ هل كانَ سيطَعِّمُ حُدوسَهُ بشيءٍ من مقولات كالمَخاض والتّغيير والتّفاؤل التّاريخيّ وهوَ يدعونا في خاتمة قصيدته إلى تفادي تكرار الفَواجِع مُستقبَلاً أم كانَ سيطوي بشكلٍ نهائيٍّ روحَهُ المُتعَبة على سوداويّة جيلٍ غارقٍ في الهَزائِم؟.
شاعر وناقد سوري.