صفحات الثقافةعزيز تبسي

طرق المدينة/ عزيز تبسي *

تنبسط الآن على مثلث من تخوم تبدو منخفضة، لأن شجرها عال، تحتاج ظلال أشجارها لمدائح متأنية إكراماً للخضرة والعصافير، المنهكة والمسترسلة بلغو لغوي تلتصق نهاية تغريداته ببدايتها كسبحة من خرز ملون، وتحتاج كذلك لمدائح للماضي في الثانوية الرابضة أمامها، حين تسلل الوقت بسرعة من نوافذها المفتوحة، وانغلقت المناهج على الموعظة الحسنة، ورتق فتوق سراويل السلطات العليا بإبر الأيديولوجيا وخيوطها ودبابيسها، والتهيؤ المنهجي لما يعقب ذلك، بمشاركة البيروقراطية أطباق حسائها، وفتات أرغفتها ومسروقاتها.

لا سور من حجر صقيل يحجز رؤية عمقها الأخضر. حاجز من وهم حديدي يرتطم بالأفخاذ المستعجلة، فيطلع العابرون بساقهم الأخرى إلى عمقها، يرمون كتبهم، المشدودة بحزام مطاطي ينتهي بقفل معدني، على العشب، ويتمددون كحمالين يصطنعون المشقة. وأمام رصيفها ينتظر المدثرون بخيوط الأملاح الجافة، وبقع الزيوت المعدنية، الحافلات الصغيرة التي تنقلهم إلى ملاذات من طين.

-أخفض صوتك، هي هنا الآن .

وكانت تتقوى على النائبات بصوتها العذب، وتداوي الأوجاع الطارئة بغلي قطائف طازجة من الأعشاب، وتحلّيها بملاعق السكر.

– هي هنا الآن!

وكان يشير للتحول في الحديقة، أو في هذا المثلث الأخضر، الذي بات مسكوناً، بتلاصق وجل لقبور مفردة، ترتفع شواهدها، وتتقبب سطوحها بتراب لزج، بأثر رشق المياه المتواصل على بذور قليلة العمق. يهز من غفا في عمقها أزيز الرصاص المتواصل، والسحج الطويل لجنازير الدبابات، وخبطات الأحذية الرياضية للراكضين بهلع في الاتجاهات المتبقية، للتواري عن أعين القناصين، وبنادقهم الدقيقة الإصابة، السريعة القتل.

– ماتت.

– بجلطة قلبية لا أكثر!

حملها أبناؤها على ظهر «سوزوكي»، ووقفوا حول نعشها، متكئين على سوره الحديدي، محدقين في سماء تربكهم بتحليق مباغت للطائرات، وبعبور ناري للقذائف والصواريخ، وبشوارع تستوقفهم حواجزها المقطّعة بمكعبات من الإسمنت.

-ألم يكن بالإمكان دفنها في المقبرة قرب أبويها، كطلب لإلفة يتوخاها الميت، قبل أن يموت، لاستكمال أحاديث عتيقة، واستفسارات ملحة من الأهل؟

-لا…

– ألا تتوفر حديقة لمنزلكم، لتدفنوها؟

– منزلنا… صار حريقة، ولم يكن فيه حديقة!

لم يكن بكاؤهم، دموعاً من ماء، يترك ملح خيوطه على الوجنات المنفوخة، كقباب منازل القرويين، كان فلزا مصهوراً، يحرق القلب ويكويه، ويحفر الأرض الممدودة ذراعها، الرافعة أكمام قميصها كالمتبرعين بالدم.

وطالما أملوا الارتماء على بطنها ليصغوا إلى مسامرات الموتى آخر الليل، وإلى «الصبحيات» العالقة قهوتها على أطراف شفاههم. ترى أكانت الرصاصة ساخنة، أكثر من كوب الشاي؟ أتوقف القلب قبل نداء المؤذن أم بعده؟ هل أوصلت ربطة الخبز إلى أولادك قبل الرصاص؟ ومن أرتج قفل الحديد على بوابة الحياة، ليعود في الصباح ليتأكد من ثباته الثقيل؟

وطالما قالوا بأناة رائقة: أيها المحاربون، ليس هذا منهجا للصيد، أن ترموا عصافير التين، ببنادق حربية ذات فوهتين!! وتركضوا بعدها مع كلابكم الهائجة، لتروا تبعثر ريشها وتفتت عظامها، ومناقيرها وأعشاشها وأشجارها ووجبة إفطارها النباتي،… لتنظروا بعدها بعيونكم الحمراء ولا ترون عصافير مضرجة بدم جوعها، تلك التي كانت قبل هنيهة تقبض بمخالبها الرفيعة على ثمرة تين يانعة، لتأخذ من فمها المشقوق بذور الحلاوة.

الإستسقاء

وفي الأيام القائظة، كانت تقف النساء، أي الأمهات والأخوات والحبيبات، على الشرفات، ليرشقن المتظاهرين بمطر ناعم، يخرج من فوهة خراطيم المياه. حينها كان الشبان يمضون إلى التظاهر بفرح، كأنهم ذاهبون إلى عرس، يهدر بطبوله وارتفاع مزاميره وأناشيده. وكانوا لفرط براءتهم، مقتنعين أن السلطة ستتهاوى طاولاتها وكراسيها ونجومها وسراويلها، بالصوت الجميل والغناء العذب، كما كانت تتهاوى قطعة الجبنة من فم الغراب، لتتلقف بكفين مضمومتين على هيئة دورق.

ويتحدثون في استراحاتهم المنزوية، عن ترابها الزعفران والحناء… بغاية تعفير وجوههم بأصبغته وشماً أبدياً، وليرفعوه إلى علياء القداسة، ويركضوا فوقه خفافاً، كطيور الدُرّج، كنسمة خارجة لتوها من فم الملائكة، المتقمصين لحم الأطفال الوردي وثيابهم البيضاء.

ويبقى على الدوام، من يبث في صدورهم ريح الشجاعة ليرتفع هودج الهتاف إلى الفلك:

– إسمعوا! لقد صارت الشعوب تسقط أنظمتها بستة أيام، وترتاح في اليوم السابع كذلك!

لكن، لم يعد بإمكانهم العودة إلى بيوتهم، المنفتحة على نوافذ وشرفات من حقائق ونداءات حارة، وعاد انتظار الأهل إلى ملمحه الدهري، بعد أن بات أبناؤهم يخطفون من الشوارع أو يقتلون على إسفلتها، وتقطّع هتافاتهم كما أجسادهم بالسواطير.

وتتوقف كل كلمة، لتبقى آهات الحسرات، والعويل المكتوم بالأغطية الصوفية والقطنية، والنوح يحرق الصدور وجذوع أشجار الحياة وأغصانها وبراعمها وزهورها… وتتوقف كذلك حروف الحلق، وغُنّةُ الهمس، والإشارات والإيماءات وحركة الحواجب ورفيف الرموش.

هيهات أن تروا بعد ذلك، أيها الشبان المقبلون على الحياة، كإقبالكم على خابية مياه باردة، شارعاً بلا أكياس رمل، زاوية بلا مسلحين. هيهات أن تروا ابتسامة على وجه إمرأة، منازل بلا أنقاض. هيهات أن تلموا أرواحكم التي تبعثرت.

أطفال يموتون بنشوق التوابل

كنّ يدّخرن من مصروف البيت نقوداً معدنية، يخبئنها في أعماق ألبستهن الداخلية بإلصاقها الأليف باللحم الدافئ، ليشترين لأولادهن جوارب وبناطيل وقمصان وقوارير عطور وربطات عنق على هيئة فراشات، ويصعدن بعدها إلى أعالي الأبراج، ليهتفن بفخر: انظروا إلى أولئك الأنيقين النظيفين، المسبلة شعورهم، المتضوعة طيوبهم، أولادنا!! أنظروا جيداً بعيون محايدة، وبتخفيف للبلاغة، لأولئك الماضين بكتبهم المدرسية ودفاترهم وحقائبهم، إلى حيث تتأبطون كتب العلوم كما يتأبط العريس عروسه… واصغوا إليهم، حين يضعون حقائبهم الجلدية الثقيلة بين سيقانهم النحيلة، عاقدين أكفهم خلف ظهورهم، كرجال يتحدون الريح ويمزقونها، وهم يتهيئون لتلاوة النشيد الكبير.

ولن تتاح الفرصة للأولاد العابرين إلى الضفة الأخرى من الحلم ليقولوا بدورهم، وهم يشيرون لأهلهم: إنها أمي، إنه أبي… كانوا يستعجلون أقدارهم إلى انسكاب غيوم يصنعها النطاسيون والكيميائيون، محمولة تحت جناحي كائنات حديد طائر…

وكانوا لفرط طيبتهم، يخالون الكائن المعدني الطائر سيرميهم بالخبز والبيض المسلوق والأدوية، ليسعفهم من حصار الجوع والأوبئة. وكأن سيفاً هوى، ففلق البطيخ والتفاح والأجاص والمشمش… والتاريخ إلى فلقتين، ما قبل الموت برائحة التوابل وما بعده!! لا يكاد يصرخ واحدهم: ما هذه الرائحة يا ماما؟ حتى يهوي مختلجاً كفرخ من السمك الشبوط، منتزع من مياهه الفرات.

* كاتب من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى