“طيور الظلام”
نديم جرجوره
لم يكن المشهد مفاجئاً: فنانون مصريون منخرطون في الحراك التجديدي لـ”25 يناير”، لمواجهة سلطة أرادت تشويه اللحظة، وإسقاط الجغرافيا في خراب مدوّ. لم يكن المشهد غريباً: هؤلاء جزءٌ من بيئة اجتماعية تنتفض على متسلّط انتزع، أو سعى جاهداً إلى انتزاع إنسانيتها، بقوة خطاب ديني أقنع قلّة ارتضت خرابها على الأرض، ولم تنتبه إلى أن موتها لن يأخذها إلى أحلام مُعلّقة. لم يكن المشهد عادياً: فنانون عديدون حملوا أعمارهم المديدة وأجسادهم المتعبة إلى ميدان المعركة، لأن أرواحهم متّقدة، وعيونهم مفتوحة على مستقبل يُريدونه ناصعاً. حملوا براعة اشتغالاتهم كلّها إلى ساحة المواجهة، واضعينها في خدمة شباب يزدادون حماسة أمام جمال اللحظة، ويستندون إلى صنّاع إبداع كي يكتبوا معاً مستقبلاً ما.
قيل كلامٌ كثير في حراك “30 يونيو”. الانفعال متساو وتحليلات أراد أصحابها القلائل جداً سويةً أخلاقية وثقافية في جعلها مرايا واقع. الحماسة شريكة منطق عقلانيّ سليم في قراءة الانقلاب السلميّ، وفي تثبيت لحظة “25 يناير” وتطويرها. لهذا كلّه، تُصاب الكتابة بالخيبة: ما الجديد المُمكن كتابته أمام المشهد المصري؟ فالمشهد نفسه هذا لم يعد محتاجاً إلى كتابات وتعليقات وتحليلات، بل إلى مزيد من دفق بشريّ متوجّه إلى غده عبر بوابة الانتصار لحقّه الطبيعي في القول والعيش بـ”حرية وكرامة وعدالة اجتماعية”. كما أنه تجاوز الكتابات كلّها، وبات على مسافة منها، لأنه مقتنعٌ بأن الفعل الميدانيّ السلميّ أفضل وسيلة للتحرّر من “طيور الظلام”، التي اعتقدت لوهلة أن التمسّك بخطاب ديني كفيلٌ بإدامة حكمها إلى الأبد، والتي اعتبرت أن هذا الخطاب يسمح لها بتلقين الناس أصول العيش، من دون أن تكون لهؤلاء الناس الأدوات الشرعية والطبيعية للعيش على هذه الأرض أولاً وأساساً.
عادت “طيور الظلام” لتُعلن نداء الموت في زمن الإشراقة الخفرة لأمل الحياة. “طيور” مدجّجة بالعفن والانهيار والتقوقع القاتل، كما بالخواء وجنون الأساطير. “طيور” مولودة من رحم الشقاء الفكري، والترهّل العقليّ، والمرض الثقافي، والهوس الدائم بماورائيات تظنّ أنها السبيل الوحيد إلى “جنّة” موعودة. لكن “طيور الظلام” هذه لم تصمد عاماً واحداً أمام قوّة الحياة النابضة في أناس يُتقنون العيش من دون التنكّر لأصول إيمان يريدونه بسيطاً وجميلاً وهادئاً وسلساً وخاصّاً جداً بهم. لم تصمد أمام الطوفان البشريّ الهادر بصوت واحد يُريد خلاصاً من شرّ يتفشّى في الجسد، فإذا بالروح تكافحه، والعقل يواجهه.
فنانون مصريون عديدون شاركوا وقالوا واعتصموا وتظاهروا. واجهوا سابقاً طيوراً متنوّعة الأشكال لظلام واحد. لم يتراجعوا. لم يصمتوا. اليوم يُجدّدون مواجهتهم تلك الطيور القبيحة، لأنهم يُدركون أن صمتاً واحداً كفيلٌ بإدامة ظلام تزيّنه طيور قابعة في كهوف ومغاور. لأنهم يعرفون أن الفن ليس مهنة فقط، وأن الفنان إنسان ومواطن. لأنهم يؤمنون بأن الإبداع يبدأ من هذا الشارع أولاً.
السفير