طُرَف من أخبار العبيد/ عزيز تبسي *
لم تبقَ شمعة في البيت إلا وأحرقوها، ولم يبقَ ظلام في التاريخ البشري إلا ولعنوه، ولعنوا من تسبب به وحرص على تبريره وحمايته وحراسته. الشموع التي كانوا حريصين على جلبها بمناسبة يوم زواجهم، الذي باتوا يسمونه في ما بينهم “عيد الزواج”، وتلك التي جلبوها بمناسبة أعياد ميلاد أولادهم، والشموع التي جلبوها في عيد ميلاد زوجاتهم، والتي جلبتها زوجاتهم في عيد ميلادهم… شموع بأشكال قلوب وشجرات ووردات متفتحات، وعلى هيئة أضرحة وهياكل وبوابات… والشموع التي جلبوها في عيد الحب، الذي صار اسمه “فالنتين” للتخفيف من كلمتي حب وعشق غير المستحبتين في الثقافة العربية السائدة، والتي تعمل أدواتها بدأب في الإعلام صباح مساء على إنتاج أطنان من ثقافة الكراهية والبغضاء والحروب الأهلية، ولن يهدأ لمروجيها جفن إلا بامتلاك كل فرد لمسدس على الأقل، أو بارودة صيد أو كلاشنكوف أو بومب أكشن، وتبييته تحت وسادته، وإعداده النفسي والعقائدي للقتل، أو التهديد به، واعتماده كوسيلة وحيدة لحل أي خلاف في الرأي أو لتفضيلات في اللباس أو الطعام أو الشراب أو النادي الرياضي أو التصويت الافتراضي لإنجاح أجيال جديدة من الغانيات، يدخلن التاريخ بهيئة فنانات ونجمات يضئن ليالي رجالات الاستبداد والتبعية والخيانة الوطنية.
والشموع التي جلبوها في رأس السنة، والتي يشير شكل تموضعها إلى أرقام العام الآتي، الذي يتوجب استقباله بتفاؤل وشجاعة… ولطالما أشعلوا الشموع ولعنوا الظلام في آن، واشتروا بعد نفاد شموع المناسبات العائلية، التاريخية الثورية منها، والإصلاحية والرجعية، كميات مهولة من شموع جديدة، ليشعلوها مع بدايات العتمة، أو “إرخاء الليل لسدوله” وفق تعبير الشاعر أمرؤ القيس، أو مرقص بحسب المؤرخين النصارى، ليلعنوا، ويوقدوا ويلعنوا مرة أخرى.
انتهت الشموع، والمال اللازم لشرائها بدأ ينفد، والعتمة باقية على صدورهم ورابضة فوق ما تبقى شاغراً من متن حياتهم، “كجلمود صخر حطه السيل من عل” وفق الشاعر عينه، لكنها فرصتهم للاحتراز والتساؤل الشقي: ترى متى وضع السيل جلموده من عل، وهل كانوا غافلين عن السيل قبل جلموده أو جلاميده، أم أنهم كانوا أسرى الأذرع المقيدة والفم المغلق والسجون التي لا تفتح مغاليقها، والهمس الطويل الذي لا يصل إلى من ليس في آذانهم صمم!!
بعدها، وربما قبلها أحرقوا أصابعهم، أي أصابع الأزواج والزوجات والأولاد والأهل، ولم تتبدد الظلمة، ولا لياليها، كأن هذا الليل خارج قوانين الفلك، ولن ينتهي قبل أن ينهيهم.
لكن ما لم ينتبهوا إليه إلا متأخرين، أنهم أحرقوا أشياء كثيرة غير مرئية، وكانت تذوب كذلك ويتبدد أثرها، كما شموعهم الغالية الملونة، تاركة رائحتها في أنفاسهم، رائحة دم محروق وأعصاب شائطة ولحم متفحم… أشياء تذكر بأعمارهم ومصائرهم واللون الوردي الذي كان لوجوههم. وباتوا يخشون أن تحولهم القادمات من الأيام، إن بقي لهم قادمات منها، إلى هوة الاعتيادية والالفة مع الكارثة، كما عند مؤرخهم الشعبي”نعوم بخاش”، حين كتب بعد وفاة الكاتب التنويري الحلبي فرنسيس مراش صاحب “غابة الحق” و”مشهد الأحوال”، والخميس قبروا فرنسيس مراش الشاعر، الله يرحمو، ومضى بعدها، إلى نافذة بيته العالية ليكمل كوب الشاي قبل ابتراده.
***
ولكن ما علاقتنا نحن بـ”الموناليزا”، حتى تشغل كل هذا الوقت من حيواتنا القصيرة، وما علاقتنا بأسرار ابتسامتها، وبالثنائية الجنسية في وجهها ونظرتها، وبفيض التأويلات عن جمالها الشمعي، المقتول في سكونية الإقطاع، المنتحل إهاب الثقافة البورجوازية التجارية الصاعدة، ساع إلى التجمل ببراعم وزهور جديدها.
لا تصح الإبتسامة إلا بانفراج جزئي لإطلالة روح صافية، لا انشقاق برعدة جيولوجية للإفصاح عن هوة لا تندمل وهادها بين جبلين، وحين تفسر ذاتها ولا تفسر بغيرها، وتكون استرسالا بمذاق شعبي حلو، بالإشارة والرمز، للضحك معنا لا الضحك علينا.
ومما تشكو الابتسامة العفوية لنجاة، نجاة التي أضيف لاسمها في يوم ما صغيرة، لتبقى إلى حين من الوقت أسيرة هذا التلاصق الحميم، ربما للتميز عن نجاة أخرى هي مطربة مرموقة وذات حضور فني عال، كذلك هي نجاة علي، نجاة التي كانت صغيرة في يوم ما وصارت نجاة. عبرت خلف ابتسامة حليبية لتغني للبلاد حين تكون “غنوة روحي وقلبي” وتسترسل بإيجاز حركي، خلف رائعة عاصي الرحباني الشعرية والموسيقية “دوارين في الشوارع”، وتتجول بلباسها الأنيق مع مرافقها عازف الأوكورديون، لتبيع أطواق الياسمين لطلاب الجامعة وللعابرين في الشوارع وللمتنزهين على الشاطئ البحري، في شوارع الإسكندرية النظيفة المنتظمة الهانئة وشاطئها الرائق المستحم بأفراحه الصغيرة.
لا ميل مخبوءا في استعادة رومانسية لذروة أيام البورجوازية المتوسطة في الستينيات، ولا الترحم على الماضيات من الأيام والتواريخ، لكن ورغم كل ذلك، الابتسامة تفصح عن هذا كله أو بعضه ولا نستطيع تجاهله، جيل شبعان مندفع في طرقات مفتوحة للتعليم المجاني، بحيازته فائضا نقديا يمكّنه الترويح عن نفسه في رحلة بحرية، أو دعوة دون خوف للصديقة إلى كوب من عصائر الفاكهة المثلجة، مأخوذ بمصول الطموحات والوعود الكبيرة، كأن يلصق مِزق البلاد المقسمة بصمغ الإرادة، ويكنس الاحتلال الاستعماري بعيدان الطرفاء، ويهوي بقبضته على السلطة حين كانت تتراءى له بهيئة طاولة خشبية سيئة الصنع، ممتلئا بأنماط متعددة من الحيوية والفرح يستدرجهما خلسة لتشييد أحلامه وبعض من أوهامه.
جيل كانت قيادته السياسية، لفرط تألمها ومعاناتها ومكابداتها، تصاب بالجلطة القلبية وتموت بها (جمال عبد الناصر، جورج حبش..) أو تدخل السجون (أحمد بن بللا، نور الدين الأتاسي…) ولا تخرج منها إلا مهشمة أو على شفير الموت، أو تُغتال في الشوارع (المهدي بن بركة، معروف سعد، سالم ربيع علي..) أو تقتل معصوبة العيون أمام فصيل الإعدام (عبد الخالق محجوب، الشفيع أحمد الشيخ، جوزف قرنق..) فتخرج العامة خلف نعشها بلباس النوم، كأنها مسرنمة، أو مأخوذة بكابوس ثقيل، لتبكيها وتبكي تيتمها بعدها، وتزور قبورها في الأبكار لتتيقن من حقيقية المأساة حين تتحول إلى نذالات سلطوية بلا نهاية، ولإحصاء الآمال الكبيرة التي أخذتها معها إلى جوف التراب الثقيل.
يختلج الجيل، بعد الوقائع المتلاحقة، كأسماك منتزعة لتوها من المياه، يستدير بعضه لا كله، لمراجعة نقدية في اتجاه آخر، يجدد آماله في ذاته، المتأبطة بهجة الحلم العتيق، يعجن طحين خبزه بمخاطرات ثورية، لا تقوى على تبديد العتمة الثقيلة المحروسة، وبقيت تبشر بما هو نقيضها، بلمع أضاءها بدمائهم كأنها خلائط الفوسفور “غسان كنفاني وغياث شيحا وأبو علي أربد وجميل حتمل…”.
لكن إبتسامة نجاة بقيت، وهي تكافح لتفتتح ما لا ينبغي أن يُغلق على الإطلاق، “عيون القلب”، كأنها إيذان بتفاؤل جديد، يتوضع رجاؤه على العضلة الحمراء المخبوءة النابضة، التي تتفلت من النائبات، ومن توالي انزلاق الجلاميد من عل.
* كاتب من سوريا
السفير