صفحات الثقافة

أحلام متساقطة/ إدمونـد والـي

 

بيروت – يجلس عمر إبراهيم في محترفه في بيروت. هذا المحترف الذي يستخدمه أيضاً كغرفة جلوس وغرفة للنوم. الأرض ملطّخة بالألوان، وريَش الرسم المتّشحة بالطلاء تنتشر في كل مكان في أكواب بلاستيكية، في حين يتكّئ على الجدار كرسي بلاستيكي ليلعب دور مسند الرسّام. الساعة تشير إلى منتصف الليل، ولكنه يرتشف القهوة، ويدخّن سيجارة، ويبدو عليه التعب. لقد أمضى يومه في نقل رسوماته من محترفه. فمعرضه المنفرد الأول في بيروت تحت عنوان “أحلام متساقطة” على وشك أن يفتح أبوابه في غاليري “392 رميل 393”.

أينما كان في لوحات إبراهيم تجد أحصنة. أحصنة مربوطة بأسلاك شائكة، أو بحبال، أو ملفوفة بأربطة وضمادات، تتقلّب على مساحة رسوماته. تغرق أعماله في رمزيّة سوريالية، ومواضيعها المنفصلة عن محيطها الطبيعي، تندفع في المكان بعجز واضح. فالأحصنة وإن كانت غير مستسلمة لحالها، تعوزها القوّة، وبالتالي فهي تكافح من دون طائل للتحرّر من قيودها.

“بدأتُ برسم الأحصنة قبل الأزمة، ولكنّي كنتُ أرسمها بأشكالها العادية آنذاك. اليوم صرتُ أرسمها على هذا النحو”.

تشير الحيوانات إلى الألم الجسدي المتأتي من الحرب الأهلية في سوريا، وترمز بشكل غير مباشر إلى الأحلام المستقبلية لضحاياها، والتي انكسرت وتأجّلت بفعل الحرب، والى رغباتهم غير المتحقّقة بعيش حياة طبيعية.

“نحاول أن نعيش بشكل طبيعي في جوّ غير طبيعي”، كما يشرح إبراهيم. ورغم أن الموضوع الذي يتناوله في لوحاته قد يُعتبر موضوعاً سياسياً، فإنّ مضمون اللوحات هو شخصي جداً. فهو يصف طريقة رسمه بالطريق الذي لا يمكن تفاديه، حيث لا بدّ لها وأن تترجم الأزمة الحاصلة في بلاده والتي يستحيل عدم الإلتفات إليها وكبت مشاعرنا تجاهها.

هذا ليس بالأمر الذي تذهب إليه بمحض إرادتك. بل هو يتدفّق منك لوحده. كيف لك أن تقدّم الأشياء بشكلها الطبيعي؟ فهذا ما أنت عليه في هذا الوقت من حياتك. لا تستطيع أن ترسم الأزهار أو النساء الجميلات إن كنت تعيش في مثل هذا الجو”.

يأخذ نفساً عميقاً، يتوقّف، ويشيح بنظره. “كان ليبدو تصرفك هذا غير صادق، وما كان ليعبّر عن حقيقتك”.

معظم مضمون رسوماته مستقى من ذكرياته عن الحياة في سوريا – القرى والمنازل وأشجار الزيتون والقمر. إحدى اللوحات المرسومة بالأبيض والأسود تصوّر فتاةً ودميتها في أحد مخيمات اللاجئين. تبدو الخلفيات غير كثيفة، وهي أحياناً فارغة، أو محدّدة بأفق مثلّم، وتنتشر فيها الهوائيات.

“هذه دمشق، السويداء، وبيروت، وكل الأماكن التي مررتُ بها، في الوقت نفسه. المساحة في اللوحة تساعدني على إظهار الفراغ الذي عشنا فيه على مدى السنوات الثلاث الماضية”.

ولا يرى الفنان التشكيلي المساحة الموجودة في لوحاته كجزء من الرسم بل كحيّز ميتافيزيقي للتنفيس عن مكنونات النفس، ولتطهيرها، ومن ثم النهضة من جديد.

“أحياناً تكون المساحة عبارة عن رحم للجواد، ولنا، بانتظار أن نولد من جديد. وأحياناً أخرى تكون المكان الذي يمكننا أن نجد فيه الشفاء من آلامنا. فثمة عالم آخر في الخارج، عالم حقيقي فيه أزمة حقيقية. يمكن أن ترى الدماء على الطرقات. وكسوري، فأنت تعيش الأزمة كل يوم. ربما حين تخلق هذه المساحة وتخصّصها للأمور غير السعيدة فهذا يساعدك على إخراج هذه القذارة من أعماقك”.

من المهم بالنسبة إليه بأنّ لوحاته تخاطب الناظر إليها، بحيث يمكن أن يصبح منغمساً فعلياً في عملية اكتشاف العمل.

“هذا ليس مجرّد طعام لكي نتقاسمه، ونعبّر عن رأينا فيه “نعم هو جيّد” أو “لا غير جيّد”. فأنا أريد أن أطرح أسئلة من داخل اللوحة. أريد أن أطرح أسئلة وأن أجعل الآخرين يطرحون الأسئلة على أنفسهم لكي يصبحوا شركاء معي في عملية الخلق. أنا لا أريد أن أعطي دروساً، بل أريد فقط أن أجعل الناس يستشعرون عمق الموقف. فإن نجحت في تحقيق ذلك، يمكن اعتباري حينها رساماً جيّداً”.

قَدِمَ إبراهيم من دمشق إلى لبنان قبل سنة ونصف السنة، هروباً من الوضع المتدهور في سوريا. وهو يعود إليها في غالب الأحيان لرؤية أصدقائه وعائلته. وفي لبنان وجد لنفسه عملاً كصحافي، ومترجم، ومسؤول ميداني لدى إحدى المنظمات غير الحكومية. ولكنّه يعود دائماً إلى الفنّ، على الرغم من التحديات التي تتطلبها مثل هذه العودة، في ظلّ هذه الأيام المقلقة اقتصادياً والسوق الذي يزداد فيه التنافس يوماً بعد يوم.

“أن تكون فناناً هو عمل صعب أينما كنت في العالم. وأن تكون فناناً سورياً – هنا في لبنان، حيث العديد من الناس لا يحبون السوريين- هو مهمة أصعب. الناس لديهم هذه الفكرة، فهم يعتقدون بأنّك لا بدّ أن تكون إما جندياً أو أجيراً. حتى أن الفنانين اللبنانيين يشعرون بأننا نأخذ أماكنهم في المعارض، بما أننا نبيع أعمالنا بأسعار أقل”.

“لا بدّ وأن تعتاد على الأمر. ولكن البيع عملية صعبة. فهناك الكثير من الفنانين الذي يريدون أن يعرضوا أعمالهم، والوضع الاقتصاي غير صحّي. في بعض الأشهر تبيع، وفي أشهر أخرى لا تبيع شيئاً. فاللوحات هي من الكماليات، وفي الوقت الحالي معظم الناس لا يمتلكون حتى القدرة على شراء أساسيات الحياة”.

يتابع إبراهيم عمله على الرغم من كل الصعوبات، فيرسم في الغالب في الليل. ومع أنه لا يقول ذلك، فإنّ الجياد تمثّل حاله هو أيضاً.

موقع لبنان ناو

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى