عائلة الاسد و بنية النسيج السوري
أحمد عسيلي
لا يوجد ابدا على وجه المعمورة اي دولة مهما تناهت في الصغر تحوي مجموعة متجانسة تماما من السكان في كل الانتماءات او في كل محددات الهوية سواء الدينية او الطائفية او العرقية او الطبقية…فكل دولة في العالم تحوي غالبا على مجموعتين او اكثر من المجموعات الكبيرة التي يشكل تناقضها جوهر الخلافات الداخلية في هذه الدولة, بالإضافة الى وجود مجموعات اخرى صغيرة لا تشكل بتناقضها مع المجموعتين الاكبر اي خلاف اساسي طاغي على بنية هذه الدولة و لكنها تأخذ اهميتها من خلال الانزياح نحو احد طرفي هذه المجموعات
فالولايات المتحدة الامريكية مثلا و لأسباب تاريخية يطغى على مجتمعها ثنائية الابيض-الاسود و الانغلوساكسون-الهسبان و على هذه الثنائية و انسجامها يتوقف الامن القومي الداخلي في امريكا ..و لكن ايضا و خلف هذه الثنائيتين الكبيرتين هناك عدد كبير من القوميات و الاديان التي تشكل بمجموعها بنية المجتمع الامريكي من مسلم و صيني و هندوسي و يهودي و غيرها من التكوينات الاجتماعية الاخرى…..اما في مصر فمن المعروف ان هناك ثنائية مسلم –قبطي بشكل اساسي و هما المجموعتان الكبيرتان المشكلان لبنية المجتمع المصري…بالإضافة الى مجموعات اخرى صغيرة من بهائي و نوبي و امازيغي…
و لان الموضوع حساس جدا وله خطورته على بنية الشعب و ترابط الدولة و على الامن القومي ككل نجد ان الدولة في كل بلاد العالم تحاول خلق المزيد من الروابط الاجتماعية و محاولة صنع واقع يشجع المزيد من الانصهار داخل كل مكوناته مع الحفاظ على الخصوصية المجتمعية و ذلك بهدف ابعاد كل احتمالات الصراع داخل بنيان هذه الدولة. لكن ما ميز الحالة السورية عن غيرها في بقية البلدان هو ان الامور سارت بشكل معكوس في حالة المجتمع و النظام السوري, فالدولة السورية كغيرها من الدول تتشكل من عدد من التكوينات الاجتماعية ذات درجة كبيرة من الانصهار…فالمجتمع السوري يحتوي بشكل اساسي على ثنائية سنة-علويين من الناحية الطائفية و عربي-كردي من الناحية العرقية…بالإضافة الى مجموعات كثيرة من المجتمعات الاصغر كالتركمان و الارمن و السريان و غير ذلك .لكن هذه المكونات كانت تعيش عصر ذهبي من الاندماج…فحين استلم حزب البعث السلطة لم تكن قد مرت فترة طويلة على تصويت العلويين في الساحل لمصلحة الاندماج مع الوطن السوري الام….و كانت هناك العديد من الخطوات الرائعة من قبل العلويين و السنة في مجال خلق مجتمع متماسك…و قد كتب عن هذه المحاولات المفكر السوري اياس حسن في مؤلفه الهام جدا(يوتوبيا المثقفين في الساحل السوري خلال العشرينات و الثلاثينات من القرن العشرين) و هو كتاب يلقي الضوء على المحاولات الرائعة التي قام بها مثقفي الساحل للتقارب مع المجتمع في الداخل السوري بالتعاون ايضا مع مجموعة من السنة المتواجدين في الساحل السوري….هذا من ناحية الثنائية سنة-علوي…اما من ناحية الثنائية عربي-كردي فان الدولة السورية ربما تكون الدولة الوحيدة الحاضنة للوجود الكردي من دون ان تشهد عبر تاريخها كله صراعا عرقيا عنيفا كالذي شهدته تركيا مثلا او حتى العراق و ايران….فالأكراد السوريون كانوا يعيشون بشكل فعال جدا و في صلب المجتمع السوري و لم يكن يعانون اي شكل من اشكال الاحتقان او التهميش…مثلهم كمثل اي مجموعة سورية اخرى ..واذا نظرنا الى المجتمع السوري قبيل وصول عائلة الاسد الى السلطة نجد ان السياسة السورية تتكون من كل اطياف المجتمع السوري دون تمييز كخالد بكداش الكردي و اكرم حوراني السنة و ميشيل عفلق المسيحي و زكي الارسوزي العلوي…و هذا المكون لم يكن لمجرد الديكور فقط او انه مجرد قشرة خارجية تطفو على السطح ..بل كان غائرا و بشكل عميق في بنية المجتمع السوري لانهم كانوا سياسيين لهم قاعدتهم الاجتماعية في جو من الديمقراطية المقبولة الى حد كبير…….
لكن و لان هذا الواقع لا يناسب اسلوب الحكم الدكتاتوري و التأسيس لحكم العائلة و لا يناسب اصلا وجود شخص بتاريخ مشبوه كحافظ الاسد في سدة الرئاسة…لذلك عمل حافظ الاسد فور وصوله الى السلطة على تخريب و هدم كل البنيان الاجتماعي للدولة السورية….و بدء حملة تشويه كل المجتمع السوري في نظر بعضهم البعض ليخلق حالة من التشنج و التوتر يستطيع من خلال اللعب على اوتارها احكام سيطرته على المجتمع ككل……لذلك عمد الى تعزيز صورة العلوي كمخبر و ضابط امن عنيف و فاسد…..و الكردي هو انفصالي و لا يحمل اي مشاعر وطنية……و تلاعب بمؤسسة الجيش و الامن و الوزارة و اصبح الانتماء التحت الوطني هو المعيار لأي منصب…..اي انه بمعنى ما قضى على بنية (المجتمع المتخيل) حسب تعبير المفكر بندكت اندرسون….ف(الامة مجتمع سياسي متخيل لان افراده حتى في اصغر الامم لا يعرفون الاخرين و لم يلتقوا بهم .لكن في ذهن كل فرد منهم صورة شركائه في الوطن) –بندكت اندرسون في كتابه المجتمع المتخيل عام 1983-
و هذا ما اعمل فيه حافظ الاسد و من بعده ابنه بشار فسادا و نخرا….فكل انسان يحمل صورة عامة عن بقية افراد المجتمع…و اذا شوهنا صورة كل مجموعة في عيون الاخرى يصبح المجتمع مفككا و بالتالي قابلا للحكم على مبدأ –فرق تسد-…و لا يستثنى من ذلك…بل و ربما اكثر الناس ضحية لذلك طائفته نفسها…اي العلويين
فكل الافلام و المسرحيات و المسلسلات تشير الى العلوي من خلال لهجته الخاصة…و كل شخص يتكلم هذه اللهجة هو حتما اما رجل امن او ضابط او جلاد…ايضا لا يشيرون الى الاكراد الا بشكل يوحي الى الاخر انهم لا يملكون اي حس وطني او انتماء للوطن….و السنة هم في معظمهم متطرفون سلفيون يهدفون الى اقامة امارة اسلامية و ابادة الاقليات…و لنتذكر مثلا ما قاله الاعلام السوري عن مظاهرات حمص خاصة و عن الامارة الاسلامية في بابا عمرو….و هو خطاب موجه لعلويي حمص بشكل اساسي من اجل استنفارهم للدفاع عن هذه العائلة
و من هذه الزاوية ايضا يمكننا فهم شعار (الاسد او نحرق البلد)بشكل اعمق….فإحراق سوريا ليس فقط احراق للبناء و البنية التحتية المعمارية بل القضاء على النسيج الاجتماعي السوري من خلال اثارة النزاعات بين كل مكونات هذا المجتمع….فيفعلوا مثلما فعلت اسرائيل قبيل تسليمها للقنيطرة حين قاموا بهدمها تماما لتسليمها الى السوريين و هي خراب….و الاسد باعتباره يعامل السوريين كعدو فهو سيعمد الى اعمال هذا التخريب في بنية المجتمع السوري قبل سقوطه
و هو ما يجعل الامور في سوريا الجديدة اكثر تعقيدا و يتطلب بذل الجهد بشكل اكبر من اجل اعادة ليس فقط البناء او علاج الامراض النفسية للإنسان السوري …..بل اعادة بناء المجتمع السوري المكون لهذه الدولة من جديد
انه لعمل بالفعل شاق جدا و عسير و اتمنى ان نكون على قدر هذه المسؤولية بعد سقوط هذه العائلة المجرمة
خاص – صفحات سورية –