صفحات الرأي

عالم العلاقات الدولية الجديدة ليس نظاماً… ويعصى على الاستقطاب والتحكم والهيكلة/ أوبير فيدرين

 

من المبكر الجزم بأن انتخاب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هو ختام مرحلة زعامة أميركية على العالم. ولكن هذا الانتخاب هز عدداً من المسلمات الغربية. فالرجل خاض حملة فظة بثت الاضطراب ويتوقع أن تخلف اضطرابات. ولكنني لست متيقناً من أنه خطر. وبعض هذا يتوقف علينا، وعلى آخرين. فمنذ 1992، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، غادرت العلاقات الدولية عالم القطبين إلى عالم معولم وضعيف الاستقرار وبحر هائج لا يعرف السكينة، ولكنه خال من عواصف متصلة. وفي أثناء ربع قرن، صدّق الغربيون الوعد الذي قطعه جورج بوش الأب (1989-1993) بنظام عالمي جديد في قيادة مستنيرة تتولاها الولايات المتحدة. وتشارك الأوروبيون والأميركيون، على رغم ميل هؤلاء إلى فهم قومي وأولئك إلى فهم مثالي، وهماً واحداً في شأن النظام الجديد الموعود. وهذا كله اليوم طويت صفحته.

وانتخاب دونالد ترامب ليس السبب في انقلاب الأحوال، بل هو تعبير عن هذه الأحوال. وهي ثمرة انتفاضات انتخابية، على غرار البريكزيت أو ظواهر أخرى شبيهة، اضطلعت بها الطبقات الشعبية. فهذه لم تصدق يوماً عولمة «سعيدة» أو مُطمئنة. واقتفت الطبقات المتوسطة الغربية خطاها، وأشاحت بوجهها عن العولمة وعن أوروبا. وانتخاب ترامب بدا من أوروبا جائزاً ولكن غير معقول، معاً. فهو بعث الرعب والاشمئزاز في نفوس الأوروبيين. وخرج على توقعات يسار أميركي وأوروبي قطع أواصره بطبقات شعبية تقترع على نحو «منحرف» وغير لائق، وراهن بكل قواه وآماله على الأقليات على انواعها (الإتنية والدينية والعرقية والجنسية…).

ومن ناحية أخرى، ظهرت أعراض خسارة الغربيين حصرية القوة والسلطان منذ اعوام. ولم تبدُ الخسارة صارخة إلا في ضوء حوادث فظيعة مثل استعادة النظام السوري أحياء حلب الشرقية تحت غطاء سلاح الجو الروسي، أو مع الشروع في مفاوضات على الخروج من الأزمة السورية، تولّت روسيا إعلانها وساهمت تركيا وإيران في إعدادها – من غير الولايات المتحدة ولا فرنسا -. فحفف الأمران الخسارة، وشهرا على الملأ ما لا يصدق أو ما بدا غير قابل للتصديق. وأشك في أننا نقدر حق التقدير دلالة هذه الوقائع ونتائجها.

وثمة بعض التوافق في ما يقوله باراك أوباما ودونالد ترامب في مسألة الدور الأميركي في العلاقات الدولية الجديدة. فهما يدعوان إلى سياسة متحفظة عليها أن تحتسب إخفاق التدخل الأميركي العسكري في أفغانستان، وعلى نحو أعظم تكلفته في العراق، بينما يشهد العالم بروز القوى الناشئة. والفرق بين الإثنين هو فجاجة عبارة ترامب عن الأمر. وهذا النهج في السياسة الدولية الأميركية يدير الظهر للنهج الويلسوني [نسبة إلى وودرو نيلسون (1856-1924)، داعية دخول الولايات المتحدة في الحرب الأوروبية الأولى وصاحب شرعة حق الأمم في الاستقلال] الذي تبناه شطر راجح من النخب الأميركية (والعالمية)، والمحافظون الجدد الذين اقترعوا كلهم لهيلاري كلينتون هم جناح هذه النخب المتطرف. وتترتب، على مدى بعيد، على هذا الانعطاف مفاعيل عميقة تطاول العلاقات الدولية في مجملها.

وانتخاب أوباما إلى الرئاسة جاء رداً على عقيدة المحافظين الجدد «الغربية»، ودعوتهم، غداة 1992 ثم في عهد جورج بوش الابن (2001-2009)، الولايات المتحدة الى نشر الديموقراطية واقتصاد السوق وقيم الغرب في أنحاء العالم وأصقاعه. وهذا مرآة جبروت قوة مظفرة. وفي اعقاب 11 أيلول (سبتمبر) ساور السياسة الأميركية قلق مصدره عداء الروس والصينيين والمسلمين، وعدوان بعض الدول (العراق). وفي هذا السياق او الظرف تبلورت العقيدة «الغربية»، وقِسمتها العالم معسكرين متعاديين ومتحاربين.

وسعى أوباما في تهدئة أميركا، وحملها على الرجوع عن القسمة الحربية، والتدخل العسكري ثمرتها. والأمر لم يحسم بعد. فالعقيدة الغربية، وهي مزيج من تفوّق وغطرسة وهاجس متشكك، انتهى إلى الفشل وأثار قلقاً… في الغرب نفسه. والأميركيون، وغير الأميركيين، ملّوا العمليات العسكرية الخارجية، وإن كان بعضها، في كوسوفو (1999) أو في مستهل حوادث ليبيا (2011)، مبرراً. وعلى الغرب الإقرار باستحالة اضطلاعه بتصريف شؤون العالم. وهو مقبل على تقليص نازعه الرسولي والتبشيري. ودونالد ترامب ترجمة فظة لهذه الحال.

وعودة جزئية إلى عالم تتقاسمه مناطق نفوذ، وجهة غير مستبعدة. وهي نتيجة تكاد تكون مباشرة للافتقار إلى مجتمع ونظام دوليين، ولقصور شرطي العالم عن التحكم في كل شاردة وواردة. ويثير هذا القصور دعاة الهيمنة الأميركيين. فهم يرون أن دائرة النفوذ العالمي الوحيدة السائغة أو المقبولة هي دائرة النفوذ الأميركية! ولكن الصين لا تنفك قوتها عن التعاظم، وروسيا تستفيق من سباتها وغيبتها على رغم بداهة مكامن ضعفها. وبعض الدول، في الشرق الأوسط وشمال شرقي آسيا وفي إفريقيا، تزن الأمور والقوة في هذا الميزان. وغاية ألمانيا في حقل الاقتصاد، من توسع أوروبا شرقاً، هي الظهور في دائرة النفوذ. والفرنكوفونية والإسبانية تتوسلان بالاشتراك في اللغة الى الحفاظ على دائرتي نفوذ.

وهذه الدوائر أو المناطق لن تكون مغلقة. فالشرق الأوسط يتصدع على مرأى منا، وليس في مستطاع القوى الإقليمية فرض إرادتها وحدها: لا النظام الإيراني وإستراتيجيته الإيرانية – الشيعية، ولا دولة عربية بارزة، ولا تركيا وعثمانيتها الجديدة. وفي مقدور مصر إدارة مصالحها الذاتية والوطنية فحسب. وإسرائيل ترتكب في سياستها الفلسطينية خطأ، وعليها ضمان أمنها والتزام هذا الضمان. وعلى هذا، لا يمكن قوة خارجية فرض الحل الذي ترتأي من طريق اتفاقات اقتسام على مثال اتفاق سايكس- بيكو (بين فرنسا وبريطانيا في 1916) أو سان ريمو (بين الحلفاء في 1920).

فهل تتقاسم الولايات المتحدة وروسيا والصين العالم؟ ولكن علامَ قد يجمع الأقطاب الثلاثة؟ قد يعقد دونالد ترامب صفقة هنا أو هناك مع فلاديمير بوتين. أما الاتفاق الشامل بينهما فيفتقر الى قواعد واضحة. وتصح الملاحظة في شأن روسيا والصين، على رغم خطاباتهما المناهضة للغرب واشتراكهما فيها. والعلاقات الدولية تنوعت موازينها ومحاورها، وتغلب عليها الزئبقية نتيجة كثرة الأدوار والمسائل، ولذا تعصى الإحاطة بها من جانب القطب المفترض، واحداً كان أم حلفاً من أقطاب عدة… وبعض البلدان المئتين التي تتألف منها الأمم المتحدة، بلدان ضعيفة النفوذ السياسي والعسكري ولكنها مصدر بعض موارد الطاقة، وأخرى تتبوأ مواقع جغرافية إستراتيجية…

وإلى هذه الدول ينبغي احتساب قوة شركات وهيئات مالية ومنظمات غير حكومية ووسائط إعلام وهيئات دينية، الخ. وهذه الكيانات تعقد عمليات البت في المسائل، وصوغ القرارات، ولو في أطر متعددة الأطراف. وقد يكون انتهاج سياسة خارجية متصلة ومتماسكة أسهل على أنظمة متسلطة، مثل الصين وروسيا وإيران، منه على الديموقراطيات المعاصرة. فما يجوز توقعه، بهذه الحال، هو الاختلاط وليس الهيكلة على أركان بيِّنة. ولعل مأساة حلب قرينة على عبث تصور الدول الغربية، وانهيار سياساتها التي أقامتها على معايير أخلاقية ومواقف اعتبارية ومعنوية، لا شك محترمة ولكن لا تصلح دليلاً عملياً. والأوراق بيد روسيا، ومعها إيران. وفشل روسيا لا يولينا دوراً في الأزمة. وعلينا استخلاص الدروس والعبر.

وبعض مشكلة أوروبا في ميدان السياسة الدولية أن ثمة قوى أوروبية ولكن «أوروبا» ليست أولاً مشروع بناء قوة دولية. فهي، منذ خطوها خطواتها الأولى، نوع من تنظيم أوكلت إليه إدارة مشروع مارشال. وفرض الأميركيون، غداة الحرب، على الفرنسيين التعاون مع الألمان. ثم كانت أوروبا، من بعدها، سوقاً. أما فكرة أوروبا القوة السياسية والعسكرية فتأخرت بعض الوقت، إلى يوم عمد فرنسوا ميتران وهلموت كول وجاك ديلور (وزير المالية الفرنسي)، في 1984، ثم في 1992، إلى صوغ فكرة أوروبا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أوروبا المواطنين. والحق يقال إن الأوروبيين الآخرين لم يكونوا مقتنعين فعلاً بالخطة الفرنسية – الألمانية.

ويستفيق اليوم الأوروبيون، وكانوا يحسبون أنهم ينعمون بعالم مثالي يسوده الحق وتضامن المجتمع الدولي، على جوراسيك بارك (صراع الديناصورات): فدونالد ترامب يثير قلق الجميــع، وبوتين يستفزنا، والمسلمــون نهب للتمزق. وقد يستدعي ذلك صدمة خلاقة، ولكــــن شيئاً من هذا لم يحصل إلى الآن. ولن تتجـــدد السياسة الأوروبية من طريق إضافة وقود إلى الوعود، ومـــن غير المبادـــرة إلى التغيير. وهذا يبعث في ناس كثيرين الرغبة فـــي التخلـــي عـــن أوروبا ومناهضتها والتشكيك فيها، والطعن في ميل الهيئات الأوروبية إلى سن التشريعات المقيدة والتفصيلية.

فلا بأس بتعليق الإجراءات الأوروبية موقتاً، والاستماع إلى الشعوب، وقبول رغبة هذه الشعوب في الحفاظ على شيء من الهوية والسيادة، وطلبها الأمن. ويتولى مؤتمر الدول العازمة على دوام أوروبا تجديد التأسيس الأوروبي على أركان إرادية، فيقرّ برنامجاً قاطعاً يقضي بقصر المفوضية على بتّ «المفاتيح» أو التوجهات العامة المستقبلية، وأولها نظام اقتراح شينغين (تنقل حر في بلدان الاتحاد) معقول ومشروط بمراقبة الحدود الخارجية.

فلا أمل بتجديد الفكرة الأوروبية من غير شحذ همم الشعوب المعنية وإقبالها. وعلى القادة الأوروبيين المسموعي الكلمة مخاطبة ترامب بالقول: إذا انسحبت الولايات المتحدة من اتفاق باريس (على المناخ) فنحن ماضون في التزامه، ونحن ماضون في التزام الاتفاق النووي في حال تنصلكم، وإذا عمدتم الى معاقبتنا بادرنا إلى إنشاء نظام تبادل مع الدول الناشئة والتعاون مع إيران. وعلينا إشهار مواقفنا في شأن السياسة الروسية في مسألتي القرم وسورية. وأما المعاهدات التجارية الدولية فعلى الأوروبيين المفاوضة عليها في ضوء مصالحهم.

* وزير خارجية فرنسا سابقاً (1997- 2002) والأمين العام لقصر الإليزيه الرئاسي الفرنسي في ولاية فرنسوا ميتران (1981-1995)، عن «لوموند» الفرنسية، 15-16/1/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى