عالية ممدوح: تضاعف سيرتها بالأفكار/ إيلي عبدو
تسرد المنفيات عادةً حكايتهنّ المطعمة بالألم، هن تعريفاً البعيدات عن أوطانهنّ، المطرودات عنوةً من مساحات الولادة الأصلية.
الحكاية عندهن، شهية مفتوحة على إعداد وجبات الحنين للتقليل من أضرار الغربة ومواجهتها شعورياً. لكن عالية ممدوح في كتابها (الأجنبية) دار الآداب، تفعل العكس تماماً إذ تستحوذ على سيرتها الباريسية، تمسك بها مجزأة تفاصيلها كمساحات لإنتاج الأفكار. وهو عمل في أبسطه خيانة وفي أقصاه كفرٌ يلابسه البحث عن الوطن الأول في جغرافيا الوطن الطارىء. فالسيرة الجديدة التي تريد ممدوح أن تستحوذ عليها، سيرة مضاعفة تختزن قصص الوطن والعائلة والدراسة في بغداد، لتبشر في الوقت عينه بالأمكنة الباريسية بكل ما تحمل من معاناة وقهر واكتشاف مغاير للذات.
تنسج الكاتبة جدلية الخيانة تلك بدقة ودهاء، ففيما تفتح الغربة على ممكنات الماضي بكل خزينه العراقي البعيد، تقيم حواراً ذهنياً وعقلياً مع باريس الغريبة مفتشتة عن نقاط مشتركة معها. ليصبح التجاور بين الفعلين النقيضين الخيط الناظم لسيرة عالية ممدوح، التي تبدو سيرة مكثفة. كثافة تعود في ظاهرها إلى تعدد المراجع وتباعدها الثقافي والجغرافي، وفي عمقها هي نتاج مخيلة الكاتبة التي تبدو أشبه بمعمل تحليلي يعيد تدوير المشاعر وقراءتها من زوايا مختلفة.
ولعل السرد التحليلي ليس جديداً على أدب عالية ممدوح إذ سبق لها في روايتها الأثيرة ‘غرام براغماتي’ أن حررت موضوع الحب من الإطار الكليشيهاتي العاطفي الذي طالما وُضع به، لتحقن روايتها بجرعة فلسفية ذاتية لم يسبق أن قرأنا بجماليتها في الأدب العربي الحديث. لقد تمكنت ببراعة وذكاء من تحليل المشاعر التي تجمع حبيبين متباعدين وتفتحها على مساحات من التأويل والتساؤل.
الروائية العراقية التي سبق لها ان أصدرت عدّة أعمال، تتمسك في كتابها هذا بأدواتها التحليلية الشعورية السابقة لكنها تتخلى عمداً عن صنعة الرواية. فالموضوع هذه المرة، سيرتها الذاتية التي تمتد من معاناة الحصول على أوراق الإقامة في باريس، إلى صعوبة تعلم اللغة مروراً بصعوبات التأقلم مع تقاليد المجتمع الجديد. وكأن ممدوح أرادت التحرر من شروط العمل الروائي. لتترك لسيرتها حرية التعرج بين وقائع ومواقف وتفاصيل، هدفها الأساس تنشيط المخيلة ودفعها لإنتاج الأفكار داخل نصوص تنسجم في المناخ وتفترق في البنية.
التفاصيل العادية التي من البديهي أن تمر مع أي مهاجر إلى وطن جديد تبدو قوية، متوقدة في سرد عالية ممدوح إذ تحرص صاحبة ‘النفتالين’ على إخراج السرد من وظيفته الاعتيادية. الحدث يذوب وراء طبقات من الأفكار والتأملات والمعاني الفلسفية التي تتراكم وتتكاثر لتشكل نصوص، غالباً ما تستفز عقل القارىء وتدخله في متاهة تساؤلية شائكة. هكذا، تتضاعف السيرة. عبر البحث وراء الوقائع ونبش جذورها المعرفية. فتكاد تكون خلفية الواقعة التي تصنعها ممدوح عبر سردها المعرفي والشعوري، أقوى من الواقعة نفسها. بعد جولة بين الدوائر الرسمية الفرنسية لإخراج أوراق الإقامة تصبح الحياة لدى الكاتبة ‘رزمة من الأوراق، المعلومات، الخانات التي علينا تعبئتها، الجداول التي سنضرب بها رؤوسنا بالجدار إذا كان أحدهما خطأ، أرقام طمغات، أختام، طوابع ثم التواقيع. هذه الأخيرة هي التي ستخرجنا من كفن الخوف إلى فسحة من فسح هذه الدنيا الجديدة’.
هذا الربط بين الفكرة والواقعة التي أنتجتها ينقذ أفكار ممدوح من السقوط في الافتعال الجاهز. لا يوجد سياقات مجردة تنزلق نحو التنظير لفهم محطات السيرة، على العكس الفكرة هي الحدث، تخرج منه لتشرحه وتحلل المشاعر التي تنتج عنه. لعبة توليدية تستمتع الكاتبة في التنقل بين محطاتها.لدى حاجتها إلى صديق يشهد معها في إحدى معاملات الإقامة تكتشف عالية أن ‘الصداقة هي صحتنا النفسية والروحية ضد الدمامة والبغض والتفاهة. هي كل قصة يمكن أن نرويها وعلينا أن لا نشك بها، لذاك الصديق الذي علينا أن نلتمس له عذراً إذا غاب أو اعتزل أو توحّد أو صمت ….’
مقابل هذا الثراء الفكري الذي تنتجه عبر سردها، ترفض ممدوح أن تكون موضوعاً روائياً يتجسد داخل شخوص وأفعال ونهايات. صحيح أن النص يحتوي على شخصيات واقعية وحوادث وتفاصيل لكنه في جوهره الوظيفي عبارة عن متواليات ذهنية ذاتية تخص الكاتبة وحياتها. ربما لهذا السبب لم تصنف صاحبة ‘التشهي’ كتابها كسيرة ذاتية أو رواية ناجزة. وضعت على الغلاف تصنيفاً ينتمي إلى مناخات الكتاب وأجواءه، (بيوت روائية) إذ تنقلت خلال النصوص بين بيوت اللغة والأصدقاء النوم والثمالة مطلقة العنان لمخيلتها لفهم ما يجري.
تصرّ الكاتبة أن تكون ذات فاعلة تتفوق على موضوعها، وتتحرك داخل نصها على هواها بدون أن تكبله بتصنيف كتابي محدد. فلا تلبث أن تسرد حدث ما، حتى تخرج منه بمعنى جديد وأفكار شديدة الذاتية. الحدث ليس مهما ما لم يجري استنطاقه وتأويله، ضمن هذه المعادلة تكتب عالية ممدوح. لتصنع خلطة سردية عجيبة ظاهرها السيرة وتحولاتها في الغربة وباطنها الجدليات التي صنعت هذه السيرة.
ذاك أن الكاتبة تلعب داخل جدليات عدة، لتحفر داخل تناقضاتها وتكشف أثرها على الذات. إذ ينعكس الوطن في المنفى داخل نصوص الكتاب، تنظر ممدوح إلى الثاني من منظورالأول وكذلك العكس، المشاعر لا تتغير لكنها تتبادل وتتطور، شعور الخوف الذي تلبّسها منذ طفولتها بات في باريس ‘تدريب على ذكاء الخوف’. أما الذات الكاتبة المتمثلة بعالية نفسها فتتصادم مع الموضوع. تريد أن تطرده طوال الوقت خارج سياقه، لتدخل معه في قلق التفكير والتأمل.
ممدوح لا تريد أن تحصر حياتها في رواية محددة هدفها الخروج عن الشروط الكتابية وممارسة اللعب السردي خارجها، وكأن هذه التقنية الأسلوبية، ليست سوى كناية عن فعل الحرية الذي ابتغته عالية في بداية كتابها فتركت بغداد هاربة من زوجها، الذي طلبها إلى بيت الطاعة. وإضافة إلى جدلية الذات والموضوع وقبلها الوطن والمنفى فإن الكاتبة صنعت مساحات للعبث بين الحدث وتأويله. فالسفر والأصدقاء والمشي واللغة والأجساد مجرد مواد أولية لخلق الأفكار وتحليلها.
على الأرجح أن هذه الجدليات الثلاثة تفاعلت مع بعضها أسلوبياً ومعرفياً، لتصنع خلطة سردية وذاتية، تضم من المشاعر والعواطف بقدر ما تضم من التحليل والفهم. قد تكون عالية ممدوح براغماتية أيضاً في موضوع الغربة كما كانت في موضوع الحب وإلا ماذا يعني أن تقول في أحد نصوص الكتاب ‘الأجنبية كنت هناك وما زلت هنا في فرنسا’.
‘ كاتب سوري