عام على الثورات العربية: مسار التغيير المتعرّج
سليمان تقي الدين
بعد عام من اندلاع الانتفاضات العربية تكبر الأسئلة والتحفظات ويتراجع منسوب الأمل وتسود حالة من التشوّش والارتباك في أوساط معظم النخب السياسية والثقافية.
في خلفية هذه الصورة ظاهرتان، الأولى هي المستوى غير المسبوق من التدخل الخارجي الغربي خصوصاً في إدارة هذا الحراك العربي، والثانية هي صعود الإسلام السياسي بخطاب لا ينسجم مع قيم العصر، واتساع دائرة العنف السياسي وتهديده وحدة المجتمعات العربية.
انعطف معظم أهل الرأي بسرعة من حال التهليل للربيع العربي
إلى حال من التشكيك بالربيع أو بالثورة، وذهب البعض إلى حد إشاعة الخوف من المتغيّرات على الحرية والديموقراطية والعروبة وعلى الكرامة وعناصر الاستقلال. يرتكز هذا المنحى من التفكير إلى الكثير من الوقائع التي دلّت على مقاومة أنظمة الاستبداد للتغيير الجذري وإعادة إنتاج قوى لتكوين السلطة لا تملك برنامجاً لتفكيك النظام القديم وتجنح بسرعة وبوضوح إلى ملاقاة الغرب وإعلان الرغبة في التعاون معه تحت عناوين ومبرّرات مختلفة. لم يكن القطاف العربي بحجم الآمال والطموحات والتوقعات وتعثّر مرّة بسياسة الاحتواء والتحوير ومرّة أمام الانقسامات والصراعات الأهلية خاصة في المشرق العربي ولا سيما في سوريا. برغم ذلك كله فالمؤكد أن النظام العربي ينهار وليست لديه إمكانات المواجهة في الداخل والخارج ويتحوّل إلى شكل آخر غير محسوم الوجهة ويصعب تشخصيه راهناً. في معظم البلدان التي شهدت هذا التغيير لا زالت العملية السياسية فيها جارية ولم تستقر السلطة على وجه محدّد ونهائي بما في ذلك حيث شكّلت حكومات أو أجريت انتخابات تمثيلية بملامح معروفة.
إذا كان القلق مشروعاً من إعادة بناء منظومة عربية تابعة للغرب فلم تكن الحال في السابق غير ذلك. وإذا كان القلق مشروعاً على الحريات فلم تكن الحال في السابق غير ذلك. ما تغيّر الآن وصار محسوماً أن هذه الشعوب ستختار ما تختاره بفعل عملية سياسية مفتوحة فلا تقرّرها نخبة سلطوية مغلقة وخارج المساءلة والمحاسبة وخارج إمكانات الضغط المتعاكس. ما نكتشفه أو نراه الآن هو مقدمات التعددية والديموقراطية والحرية حيث نعتاد على تناقضات المجتمع وصراعاته بعد مصادرة طويلة له. لن يحسم في هذا تصريح أو موقف أو رأي لجهة مهما كبر حجمها وعلا شأنها وكانت صفتها. هذا التهويل أو هذه المبالغة في تعظيم خطر الاتجاهات السياسية التي ترعاها من دون شك قوى دولية وإقليمية وتغذيها بالمال والإعلام والعلاقات العامة وأحياناً بالسلاح لا يفيد أنها وطّدت سلطتها أو أحكمت قبضتها على المجتمعات وهي قادرة على إلغاء حيويتها وتفاعلاتها.
ما يحتاجه العرب وما انفجر في أشكال من الحراك متعددة لن يجيب عليه مشروع جهة سياسية أو حزبية أو عقائدية. هناك تراكمات من المشاكل والأزمات خاصة الاجتماعية التي ستجد لها خطوطاً وجسوراً إلى داخل الجماعات السياسية وتقوم على خضّها وتحريكها. ليست اللحظة «الثورية» التي تشهد كثافة للسياسة والشعارات هي التي تظل مستمرة بعد أن تؤدي وظيفتها لكي تفتح آفاق النتائج العملية. نعرف الآن أن البلدان العربية لا يختصرها رئيس أو حزب أو جماعة ونرى الرأي الآخر والجدل ونجد القدرة على السجال السياسي والمنافسة والصراع. على هذا المستوى يجب أن نفهم الإنجاز العربي بعد أن اختبرنا النتائج السلبية لنهج الانقلابات التي تتم من وراء ظهر المجتمع وتفرز قيادات تصادر آراء الناس وحرياتها تحت مسميات مختلفة. ليست الديموقراطية السياسية طبعاً نهاية المطاف ولا هي وحدها الضرورة العربية، كما أن الديموقراطية بذاتها ليست صندوقة الاقتراع. هذا مفهوم ومسلّم به. لكن خارج المسار الديموقراطي لا قدرة للشعوب على مواجهة مشكلات التحرر والتنمية والتقدم. تشترط بعض النخب العربية «العلمنة» (فصل السياسي عن الديني) لكي تعطي الحراك العربي دلالته ومضامينه الثورية، أو هي تجد فيه مجرد صراع على السلطة يكرر نفسه.
لكن فصل الديني عن السياسي هو حصيلة فعل اجتماعي معقد وليس ثمرة تبشيرية ولا هو قرار فوقي. ما أعاق ويعيق تجذّر العلمنة والعقلنة هو تزاحم معطيات تاريخية أدت إلى تكوين مجتمعات هجينة بين الحداثة والتقليد، بين الانغلاق وليس الاستقلال وبين التبعية أو ما حاول البعض وصفه بالمنظومة «الكولونيالية»، أو التطور تحت سقف التبعية. التشوّهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي حصيلة طبيعية لأنظمة الاستبداد المغلفة بالشعبوية أو المغلّفة بالثقافة الدينية الأصولية والسلفية. أعاد النظام العربي إنتاج الدين بوصفه مادة الالتحام أو التضامن الاجتماعي. جعل من الدين المستحدث بطبعات سياسية خاصة بكل نظام أساساً لشرعية خياراته الاقتصادية والسياسية. علماً أن الثقافة الدينية التي تم توزيعها على المجتمع لم تكن هي نفسها مرجعية سلوك النخب السياسية والاقتصادية. تحالفت المؤسسة الدينية مع المؤسسة السياسية ثم شقت عصا الطاعة عليها حين انفتحت أمام النخب السياسية الدينية احتمالات السلطة المباشرة. هذه المرحلة العربية من صعود الإسلام السياسي هي المدخل لامتحان الخطاب الديني في الأمور الدنيوية وهي المقدمة المساعدة على «العلمنة» بوجهيها: التسييس المفرط للدين الذي يضعف قدرته على احتواء كل الظواهر، والنزوع الطبيعي لتقديم الحركات الدينية إجابات إنسانية اجتماعية واقعية غير إيديولوجية.
ما ينبعث الآن هو ظاهرة التديّن والظاهرة الطائفية. في جذر هاتين الظاهرتين نوابض قبلية قديمة ومستحدثة. يعبّر المجتمع عن نفسه ويتنفس بعد عقود من الكبت. لا تولد هذه الظواهر من تداعيات الخيال والأفكار، بل من بيئة اجتماعية مخلّعة لم تنجز تطوّرها المزدوج نحو بلورة كيان الفرد الطبيعي بحقوقه الشاملة والمواطن بوصفه المرجع الأساس للعقد الاجتماعي والسياسي. هذه الموجة العالية من الإسلام السياسي لا بد سائرة إلى الانحسار والتفكك انطلاقاً من مكوّناتها ومن تفاعلاتها مع العالم الواسع خصوصاً أن جزءاً مهماً منها هو ثمرة هذا التحالف مع الغرب. لم يعد العالم العربي محكوماً بين خيار «العروبة هي الحل» و«الإسلام هو الحل».
انفتحت التحديات على «المضامين» الإنسانية حتى لو كانت لا تغادر أبداً كون المشروع الفعلي لا يلغي العروبة والإسلام ولا يفصلهما أصلاً عن الهوية الثقافية لهذه الشعوب. ما نحن فيه الآن هو احتمال التأسيس المحفوف بالكثير من المعوقات لمنظومة المواطنة العربية بمعزل عن وطأة المواقف السياسية المسبقة.
إذا كان من مستقبل لعروبة حديثة علمانية غير معادية للدين (أي مدنية) وتوحيدية لا تصادر المجتمع بل تعبّر عن تنوعه فذلك مرهون لثقافة المواطنة.
السفير