عبدالرزاق القلسي
من عمق افغانستان التائهة بين الكتل الجبلية التي لا حد لامتدادها والغارقة في بحار من العنف المتواصل منذ عقود متلاحقة، يعلو صوت مختلف عن ضجيج البنادق ومتفرد بنبراته الهادئة هدوء الثلوج في قمم الجبال. انه صوت الروائي الافغاني عتيق رحيمي وهو يصافح اسماعنا عبر اسلوب الكتابة الروائية والتي خلنا انه في افغانستان ولفرط شيوع العنف فيها.
الا مريد لها ولا انصارا .ليست لغة الحرب هي اللغة الوحيدة التي تمددت في ذلك البلد الاسلامي المكلوم ولحسن الحظ وانما لغة الرواية التي تجد في الفاجعة الافغانية المستمرة مددا لها ومدادا لاستمرارها .فهذا البلد لم يعرف الاستقرار على مدى العقود الثلاثة الاخيرة وكان وضعه الجغراسياسي مصدرا للصراع بين القوى السياسية في العالم اجمع ويبدو ان موقعه على هامش الدول الاسلامية الكبرى لم يزده الا اهمية وحضورا. كيف لا وقد اقترن اسمه بأعظم كلمة واخطرها واشدها التباسا واكثرها سحرا في النفوس، اي كلمة الجهاد، ايا كانت الجهة القائمة عليه او الجهة الممارس ضدها .
المشهد الافغاني يغري بالكتابة ولا ريب ان هناك افتتانا بما يخفيه وراء نمط الحياة السائد فيه ومن خلال ممكنات العلاقة بين الانسان الافغاني وبين واقعه وبيئته ونظام تفكيره والمؤكد لدينا نحن القراء ان هذا المشهد بكل العناصر المكونة له يتحرك في الحدود القصوى للتجربة الانسانية وللمعيش اليومي حيث تتماهى الارادة الفطرية للحياة مع التسلط القهري للموت وحيث يتقاطع مبدأ اللذة مع مبدأ الواقع ضمن الصيرورة الامامية للحياة ولكن بعد ان يحصد الموت والقتل ما شاء لهما ان يحصدا من الارواح التي لسنا ندري على وجه الدقة السبب المنطقي لانهائها فيما كانت تضج بالحياة والحركة والحب .
المشهد تتناوبه درجات قصوى من العتمة والوضوح ومع ذلك يبدو لنا الخيال الروائي هو الوسيط المناسب لمقاربة الموضوع الافغاني. ويبدو لنا انه اكثر صدقا من الوسائط الاخرى كالاعلام مثلا لانه ينفذ الى حدود تلك المناطق القصوى ويتسرب الى تلافيف العلاقات الغامضة بين الشخوص دون ان يمارس اي توجيه كان او يفرض اية وصاية لا على الشخصيات في صلب العمل الروائي ذاته ولا على قارئه على حد سواء .
قد تغيب الديمقراطية عن واقع اية دولة واي مجتمع ولكنها لا يمكن ان تغيب عن فضاء الرواية حتى وان نشأت تلك الرواية في اكثر البيئات استبدادا ..فالرواية اكثر الاجناس الادبية ديمقراطية على الاطلاق وغيابها يؤشر الى ضعف العمل ذاته والى تهافته وفي رواية الكاتب الافغاني عتيق رحيمي ‘صخرة الصبر’ والتي حاز بها على اهم جائزة في الادب الفرنسي وهي جائزة الاخوة غونكور لسنة 2010 نلتقي بالمشهد الافغاني في تعدده الحقيقي وفي اصواته المتعارضة. ففي هذه الرواية التي كتبها بلغة موليير ننظر الى العالم الافغاني من وراء عين الساردة التي تدخل بنا في متاهاته واحجياته ومفارقاته وتنهض هذه الرواية الفريدة على مشهد نادر وغريب يصاحبنا على امتداد صفحاتها المائة والاربعين وهو مشهد رجل افغاني مسجى بلا حراك متمدد في جانب من جنبات الغرفة التي لا يبرحها قط وان برحها فبمعجزة. في هذا الرجل رصاصة اخترقت موقعا حساسا في ظهره وحكمت عليه بالقعود وبالصمت. وبجانب هذا الرجل زوجة شابة هي المرأة الوحيدة على وجه الارض التي تؤمن بان الحياة ستنفخ من جديد في جسد زوجها العاجز بحيث يستعيد حركته وكلامه. لا قدرة لهذه المرأة على تطبيب زوجها ولا وجود للطبيب اصلا في تلك البلاد ولكن لهذه المرأة مسبحة لا تفارقها ابدا وهي لا تكف عن التسبيح لعل في هذا التسبيح قدرة على تحويل الاشياء على غير صورتها الحقيقية او التأثير عليها وعلى حالتها خارج اية علاقة سببية او منطقية بين العلة والمعلول في نظام الاشياء .
في اسلوب الكاتب الافغاني عتيق رحيمي ملامح ثابتة لكاتب السيناريو السينمائي، فالسرد يؤلف بين الاحداث المتلاحقة على ايقاع العلاقة الفريدة بين تلك الزوجة الافغانية الشابة وبين زوجها الممدد على فراش العجز وتبدو هذه الاحداث تفاصيل تافهة في الظاهر ولكنها عميقة الدلالة في التعبير عن نظام الحياة في بيئة قاسية مثل البيئة الافغانية، فالكاتب يعمد الى التبئير على تفاصيل صغيرة مثل حركة الزوجة داخل البيت وتسبيحها واحصاء عدد التسبيحات والقام الزوج للمرة الالف الدواء ذاته ويبدو البيت هو المساحة الوحيدة الذي يمكن ان تتحرك فيه بحرية نسبية. وعلى اية حال فإن تلك التفاصيل تبدو عامرة بالمعنى ومؤثثة للفراغ الذي يحيط بحياة هذه الزوجة ومانحة لها سببا مهما لكي تبقى حية تدب على وجه الارض .
للاشياء حضور مهم في رواية عتيق رحيمي ‘صخرة الصبر’: المسبحة، الحجاب، البرقع فضلا عن كتاب القرآن الذي لا يفارق البطلة وحضوره المركزي في منزلها المتواضع مع زوجها المقعد والاخرس الى الابد يمنحها طاقة من الصبر في الحدود القصوى لهذه التجربة الانسانية، و لكن مع غياب ذلك الكتاب لاي سبب كان تصبح رقابة المرأة على ذاتها وعلى جسدها معدومة او شبه معدومة .و في كلا الحالتين تبدو لنا تلك المرأة الافغانية ممسكة بالجمر، في حالة الصبر على هذا الرجل المقعد والذي لا امل في شفائه، وفي حالة السماح لجسدها بان يستجيب لمبدأ اللذة القاهر في مجتمع يحصي انفاس المرأة وسكناتها .و في ظل هذا الاحساس المرعب الذي يجعل البدائل غير متاحة تتولد في نفس هذه المرأة طاقات استثنائية من التحمل على ايقاع لعلعة البنادق وازيز الرصاص الذي لا يكف والانفجارات التي تكاد لا تغيب ابدا عن الفضاء الروائي. وتبدو الرموز الدينية هي الملاذ الوحيد والحقيقي الذي تنكفئ فيه هذه المرأة حتى تجد لنفسها، او تهب لنفسها، معنى لوجودها فهي تبدو لنا كائنا دينيا في مجتمع ديني اضفى عليه مفهوم الجهاد بعدا اصوليا وبتعلة هذا الجهاد تزوجت رجلا لم تعرفه بل ولم يحضر حفل زواجه منها ثم باشرها فيما بعد عودته من القتال بأسلوب اقرب ما يكون الى الاغتصاب. هذا التدين يلعب على المظهريات والشكليات والايقونات وعلى كل ما يخاطب البعد البصري والاستقبال المرئي وهو في المتخيل الافغاني يبدو قريبا من الينابيع الاولى للدعوة الاسلامية اي لم تلحق عليه يد التغيير او التبديل ولم تطله يد التحديث ما خلق في الوعي الافغاني المحتمي بالجبال الالف في افغانستان حصونا لا تقدر الافكار الجديدة على الدخول منها او النفاذ من شقوقها او فتحاتها. ولا يكف الروائي عتيق رحيمي عن ممارسة تقنية التبئير على هذه الاشياء والايقونات فهي تمثل المشهد البصري في المجتمع الافغاني الذي لم تصله رياح الحداثة الا مصحوبة بالسلاح الذي يمتشقه الغزاة .
شعائر الموت / فتنة الحياة
في رواية ‘صخرة الصبر’ ضيف لا يحبه احد وينبذه الانسان ما استطاع ومع ذلك يبدو حاضرا وبقوة في كل صفحات الرواية، فهو قريب من كل الشخوص، بل ان بعضها يتماس معه ويحتك به، والشخصية المحورية للرواية، شخصية الرجل الافغاني الممدود على الارض تبدو في منتصف الطريق ما بين الحياة والموت غير ان الاهم في تقديرنا هي تلك الطقوس المصاحبة لحدث الموت، فبالنظر الى عدد القتلى، والى الصراع الدامي الذي يحكم ايقاع العلاقة بين الفرقاء الافغان، فان الحدائق العامة والخاصة غدت قبورا لقتلى مجهولين لا يسأل عنهم احد، كما ان طقوس الدفن تتصف بالسرعة والعجلة، ولكثرة طقوس الدفن ومناسباته لم تعد تثير وعي احد، فالموت قد تسرب الى الاقاصي العميقة للوعي الافغاني العام ولكن مع ذلك تبقى هناك كوة تنفذ منها انوار الحياة وفتنتها، ففي اقسى اللحظات التي تشهدها هذه اللحظة الافغانية وفي اقصاها يتولد شعاع من الايمان الصوفي الغامض يحقق معجزة الاتصال بصخرة غامضة هي مصدر سعادة كل الافغان وكل المؤمنين على وجه الارض، انها الحجر الاسود الذي لا يبدو انه حجر عادي موضوع في مكان ما في الكعبة الشريفة، وانما عنصر اصيل في المتخيل الافغاني واللاوعي الجماعي وفي الايمان الذي يمارس كل يوم وهذا الايمان والمعتقد تسنده احاديث غير مألوفة واساطير المجتمعات الدينية القديمة والمنغلقة على نفسها وقصص الخوارق ويبدو ان الافغان قد وضعوا علامة ليوم القيامة وهي انفجار الحجر الاسود وتشظيه فذلك يعد في تفكيرهم ايذانا بنهاية العالم الدنيوي وانبعاثا للعالم القيامي .
ان الحجر الاسود هو الصخرة التي تهفو اليها ارواح جميع المسلمين ويشد اليها الرحال طلبا للمغفرة وطلبا للمعجزة وتحسبا للحظة انتهاء العالم، ولكن العقل الافغاني السشبي قد تحسب لامكانية عدم قدرة الانسان على الترحال الى الحجر الاسود ولاجل ذلك كان لا بد ان ينخلق البديل له والحافل بكل الطاقة الروحية والايمانية ذاتها للحجر الاسود الحقيقي، ففي هذه الرواية ‘صخرة الصبر’ تتخذ الزوجة الافغانية من زوجها المشلول والغائب عن الوعي حجرها الاسود بحيث تحيطه بكل فروض الطاعة والعبادة وتحرص على ان تتمثله حيا ومتحركا بل وتمارس معه نشاطها الجنسي ما استطاعت . انها تقدسه رغم حالة الشلل التام الذي ظل عليها وسيظل عليها الى بقية عمره، فتقديس الزوج هو من تقديس الحجر الاسود وهذه المعادلة هي التي تحكم شخصية هذه المرأة الافغانية .
ان هذه الشعائر التي تنهض بها هذه المرأة تهبها المعنى لوجودها وتنزع عنها احساس عبثية الحياة حتى وان كانت تكررها الى ما لا نهاية ولكنها مع ذلك تسعى الى ان تخلق لذاتها نوعا من الهامش تتحرك فيه بدون رقابة احد وتنفلت فيه من قسوة المجتمع الافغاني الغارق في ذكوريته وفي تعاليه عن المرأة ويصبح الهامش فضاء لكي تسرد لنا المرأة الراوية مصائر بعض النساء ومآلاتها الحزينة، فواحدة منهن انتحرت او اجبرت على الانتحار لانها قتلت صهرها الذي كان يغتصبها ليلا نهارا في ظل غياب الزوج المشغول بالجهاد، واخرى ولانها لا تنجب تحولت الى امة او جارية مأمون جانبها فالمرأة الولود هي الخطوة الاولى في مسار عتبات القبول في عالم الرجل وفي المجتمع .تصبح رواية ‘صخرة الصبر’ لسان حال المرأة الافغانية التي تقريبا لا صوت لها في حقبة التسعينيات وهي الحقبة التي شهدت صعود حركة طالبان للحكم واحتدام الصراعات الطائفية بين الطوائف الافغانية حول من يحكم البلاد .
في ظل هذا الهامش يصبح اللامنتظر واللامتوقع هو المادة الرئيسة للسرد وهو سر قوة العمل الروائي الذي كتبه عتيق رحيمي الذي يلعب بانتظارات القارئ ويسفه توقعاته الى ابعد حد ممكن، وهو ما اضفى على الرواية جماليات قصوى فهذه المرأة التي تحاصرها تقاليد المجتمع الافغاني القاسية وتشدها الى رجل مشلول لم تقاوم نداء الانوثة والجسد واستطاعت ان تفتح لذاتها شقوقا في السور الافغاني المحيط بها، ففي لحظة من لحظات التجربة القصوى التي شهدتها وهبت جسدها الى مقاتل افغاني يباشر الجنس لاول مرة ويبدو الا معرفة له بطقوسه وحيثياته .و يعمد الروائي الى نوع من الرموز في تصوير العلاقة الجنسية بين امراة محرومة من الجنس وبين رجل يمارسه لاول مرة ولا تكمن جماليات هذا التصوير في الوصف او في سرد التفاصيل وانما فيما تخلفه هذه العلاقة العابرة من احاسيس قوية، فالجنس لا يهم الكاتب وانما استتباعاته على شخصيتين تعيشان ظروفا قصوى في مجتمع يقسو بعضه على بعض .
المؤكد لدينا ان تلك العلاقة السرية تمثل الوجه الخفي للمجتمع الافغاني الذي يستطيع البعض ان يحنو على البعض ولكن في الخفاء وفي ظلمات الليل، اما في العلن فإن العلاقات تكون دوما محكومة بالقوة والسلاح ومنطق الغلبة .ان هذه الشدة والصلابة في المزاج مستوحاة في تقديرنا من قسوة المناخ في البيئة الجبلية التي ينتصب فيها الف جبل تشكل تضاريس افغانستان الجغرافية. ولا ريب في ان للطبيعة تأثيرا مهما وثابتا على السلوك والامزجة، فقد ثبت ان الشعوب النهرية والبحرية ارق طبعا من الشعوب الصحراوية والجبلية. وايا كانت نسبية هذه الاستنتاجات وهذه الاحكام فان في رواية عتيق رحيمي ‘صخرة الصبر’ ما يشير الى غلظة طباع الرجل الافغاني والى فظاظته و’قلة رومانسيته’ حتى في تلك العلاقات الحميمة مع زوجته والتي يفرغ منها بتعنيفها او بالبصاق على وجهها .
المشاهد الجنسية في هذه الرواية على قلتها ورمزيتها العالية في آن تعبر بوضوح عن تنامي مساحة العنف بين الافغان وتراجع نفسيات الود والتراحم فيما بينهم، فنحن نقرأ في تفاصيل تلك العلاقة ان العنف قد طال كل جوانب الحياة في حياتهم وباعد بينهم . وفي ظل هذه الظروف القصوى ينشأ في الرواية تحول في السرد لم يكن ليخطر على بال القارئ مهما كانت نباهته وفراسته في قراءة الرواية وفهم المجتمع .فهذه المرأة الافغانية التي تلازم زوجها المقعد وتحيط وجوده بكل شعائر الطاعة ومفردات الخضوع ولا تكف ابدا عن التسبيح هي ذاتها التي تسترق من هذا المجتمع القاسي والعبوس لحظات لكي تمارس شهوتها مع فتى بدأ يخطو اول خطواته في القتل والقتال اسوة بغيره من الشباب الافغان ولكن الصدف قد دفعته الى بيتها طلبا للحماية من هجوم مباغت من جهة معادية، ففي اتون هذا الصراع الدموي بين الاخوة الاعداء والذي لا افق سياسيا له يتحرك السرد في اتجاه البحث عن المسكوت عنه وعن المخفي وعن اللامنتظر في عمل الشخصيات وتصبح القراءة ذاتها عملا استكشافيا وتجربة فريدة في فهم الخبرات الانسانية في التخوم القصوى لمعيشها اليومي .فالسرد ينهض على التبئير على الوجه الاخر لتلك الزوجة الافغانية التي يبدو لنا انها امتلكت فعلا جسدها وهي تتصرف فيه بحرية كاملة فهي تستقبل في الخفاء ذلك المجاهد الافغاني وهي ايضا وهذا ما كشفه الينا السرد تنبئنا بان ابنيها ليسا من صلب زوجها الممدود على الفراش وانما من صلب رجل اخر لا تعلم حتى وجهه، اذ يخبرنا السرد بلسان هذه المرأة الافغانية انها مارست الجنس بشكل اقرب ما يكون الى الترف الجنسي الاوروبي اذ ادخلت الى غرفة سوداء يفصل بين جنباتها ستار اسود ووقع الاختيار على رجل قوي البنية حتى تنجب منه وتنفتح من ذلك الستار كوة تتم من خلالها العلاقة الجنسية من دون اي احساس بالاثم او بالخطيئة .
ان القراءة تظل مشدوهة الى هذا الانقلاب الآسر والساحر من الظاهر الذي كانت هذه المرأة توهمنا به الى الباطن الذي تحياه بكل حواسها وبشاعرية خفية في مجتمع عنيف ومغلق وذكوري مثل المجتمع الافغاني .
ولكن المرأة في افغانستان لا يمكن ان تعيش على حل شعرها كما يقول المثل المصري المأثور، مهما اوتيت من الذكاء والفطنة وقوة الشخصية والقدرة على الاخفاء والتخفي، فهذا المجتمع ذكوري، جبلي بامتياز ومن عمق هذا المجتمع تتولد الاساطير المؤسسة للذكورة والرجولة ومن عمق جباله الالف ينشأ الاحساس بالقوة والصلابة، فلا وجود في المتخيل الافغاني لامرأة تخون زوجها وتفلت من العقاب .فلا بد ان ينكشف سرها على ان يصاحب هذا الانكشاف انتقام فظيع واراقة للدماء وعنف لا حد له .ففي اخر مشهد من مشاهد هذه الرواية ينهض هذا الرجل المشلول والممدود بعد ان اوحي له ان ابنيه ليسا من صلبه .نعم اوحي له، هكذا يفسر السارد عودة الحركة الى هذا الرجل المقعد .وغني عن البيان بألا علاقة سببية بين الاحداث في هذا المشهد الفانتاستيكي، ولا معنى للعلاقة بين العلة والمعلول في هذا المقام .ينهض الزوج للحظات بقوة وبطاقة لا تؤتى الا الى الانبياء والرسل في المنطوق الديني، والى الاولياء والربانيين في المنطوق الشعبي والسحري .ينهض الرجل لكي يشج رأس زوجته على الحائط وحاولت للحظة ان تقاوم فغرست السكين في قلبه ولكن الدماء ابت ان تنزف .ثمة شيء سحري وعجائبي يفعل فعله في الاحداث ويعلو عن التفسير المنطقي الذي لا سيادة له على العقل في مثل هذه الظروف القاسية ولا اليبئات القصوى .تحققت المعجزة امام هذه الزوجة التي حان الوقت لكي تدفع ثمن خيانتها لزوجها الذي لا يستطيع ممارسة واجباته معها اصلا. هذه المعجزة تتمثل في ان الرجل اضحى روحا مقدسة وكائنا نورانيا .و في تلك اللحظة التي يلتقي فيها العقل الانساني المفرد باليقين الايماني وبالقوة السحرية للاسطورة التي تحيا مع الناس وفيهم، ترتضي هذه المرأة ان تكون نهايتها على تلك الصورة العنيفة القصوى:يمسكها زوجها بكلتا يديه ويدق عنقها ويبدو لنا كأنه بعث من اجل هذه المهمة ومن اجل تصحيح الامور وتعديل مسار العلاقة مع الزوجة وفي ظل هذه الوقائع تظهر الاسطورة بوصفها المفسر الوحيد لنظام الاحداث وهي الحاملة للمعنى الذي يبدد حيرة القارئ من الانقلاب الحاد والراديكالي للاحداث وللمواقف .
ان فعل الاسطورة في المجتمع وفي الافراد ليس امرا مستغربا فالانتروبولوجيا الدينية كفيلة بتفسير هذا التماثل في قوة الاسطورة في الواقع سواء في افغانستان او في اقصى الارض، في امريكا اللاتينية، و لدى الشعوب القديمة فهذه الشعوب لم يعرف بعضها البعض ولم تتبادل التاثير الثقافي بينها ومع ذلك يخضع مخيالها الى الثوابت ذاتها والى فعل الاسطورة بوجه خاص .
وصفوة القول اننا ازاء رواية فريدة نقلتنا لحين من مناخ افغانستان الجبلي العنيف والقاسي الى فسحة الخيال الافغاني المشرب بالاسطورة والممتزج بالتدين والغائر في اللاوعي الجمعي ما يطرح سؤالا اشكاليا ان كنا نعرف ام لا ثقافة هذا الشعب الذي نرجو له السلام والمحبة بين فرقائه .
باحث تونسي
القدس العربي
