عسكرة الحياة في سوريا/ أيمن الشوفي *
بعد حراك آذار / مارس عام 2011، خرجت «البزّات» العسكرية من ثكناتها الباردة إلى الشارع. لم يكن ذلك ملحوظاً بادئ الأمر، إذ تدارت تلك الملابس المتجانسة في ألوانها خلف براميل معدنية صدئة، وكتلٍ من الخرسانة، بعدما أقامت بواسطتها حواجز تتفحص من خلالها البطاقات الشخصية للعابرين للتعرّف على مطارح توّلدهم، وأماكنِ سجلّاتهم المدنية. ظهرت تلك الحواجز بدايةً على أطراف العاصمة دمشق، وعلى طرق السفر السريعة التي تربطها مع باقي المحافظات، ثم سرعان ما تكاثرت لتنبسط فوق أغلب الجغرافيا السوريّة.
بداية «العسكرة»: الحواجز
لم يكن الحراك المدني قد تعسكر؛ بعد حين بدأ السوريون يتقبّلون على مضضٍ تقديم بطاقاتهم الشخصية أكثر من مرّةٍ في اليوم الواحد كي تتفحّصها البزّات العسكرية، بحيث تخطّى تثبيت هذا المشهد على الأرض كلّ الصور البصرية المحفوظة من الثمانينيات، حين ظهرت «الطليعة المقاتلة» للإخوان المسلمين، وانتصبت معها آنذاك الحواجز العسكرية والأمنية للسلطة. كان زمنًا زهت فيه «سرايا الدفاع» كأحد أذرع السلطة القوية المنبسطة داخل حياة المجتمع، بل فاق مشهد العسكرة الذي لحق حراك عام 2011 كل المظاهر المماثلة التي كانت قد صاحبت الانقلابات العسكرية في سوريا منذ عام 1949.
رداء يتوسع
إثر تقوّض الحراك المدني في سوريا خلال عامه الأول، والاتكال المتنامي على السلاح في الحسم الكلّي، لم تعد «البزّة» العسكرية بألوانها المنتقاة من الأخضر الداكن والأخضر الباهت والأسود والبنّي، هي ما يرتديه الجيش النظامي فحسب وهو منتصبٌ وراءَ حواجزه وعلى مشارف المناطق التي تحوّلت إلى أطلسِ مواجهات عسكرية بدت بلا نهاية منذ أول حلقة في سلسلة الانشقاقات التي أظهرت تباعاً كتائب الجيش «الحرّ»، ثم بعده تشكّلت الألوية الإسلامية، ومن بعدهما تَكَاثَر مجاهدو «النصرة» و«داعش»، ومن بينهم «الوافدون». لم يكن صعباً تبيانُ أن المناطق الأقل سخونةً في سوريا، حيث لا تزال السلطة ماثلةً بكل مؤسساتها، تقبّلت البزّة العسكرية وبندقيّة «الكلاشينكوف» ليس فقط على الحواجز، وإنما ضمن التفاصيل الحالكة للحياة اليومية. إذ سرعان ما التصقت هرميّة الحاجة إلى تعزيز الدخول الشحيحة بالانضواء تحت الألوان العسكرية لتنظيماتٍ عديدة ارتدت رداء الجيش، وحملت كلاشينكوفه، وشيّدت لنفسها حواجز جديدة، وأخرى اندمجت في حواجز الجيش نفسه. وصار المنتمي إلى الجناح العسكري للحزب القومي السوري الاجتماعي، أو إلى كتائب البعث، أو إلى اللجان الشعبية، أو إلى جيش الدفاع الوطني.. يستخرجُ من عسكرة الحياة دخلاً شهرياً يتفاوت بين 15 ألف ليرة إلى 40 ألف ليرة، وذلك بحسب تموضعه الجغرافي بُعداً أو قُرباً من خطوط الاشتباك اليومي، ومن لعبة الاشتراك بها.
وبعد شهر آب / أغسطس من العام 2013، وحينما تبددت «فوبيا» الضربة العسكرية الأميركية، صار يقيّنيّاً أن الرغبة الدولية تركت سوريا مفتوحةً على حربٍ مديدةِ الأثر تتوزع جبهاتها في الداخل السوري كلّه تقريباً. ما دفع أغلب تفاصيل الحياة إلى مزيدٍ من العسكرة، وبات التغاضي عنها او السعي لتجنّبها يحيلُ المرء إلى مزيدٍ من التهميش حيث تتحوّل أساسيات الحياة اليومية إلى ترفٍ لا يليق إلا بحياةٍ واهية الأوصال كالتي يعاينها الواقع في سوريا منذ ثلاثة أعوام. فضمنت أسرُ من استشهد في المعارك المضنية والطويلة وظيفة حكومية، واتسع قطر دائرة مزايا هذه الأسر الى أبعد من الذي حددته حرب عام 1973.
كما وأدى شحُّ مواردِ الحياة بالكثيرين إلى التودد من أقنيةِ عسكرة الحياة لتأمين ما ينقصهم من المحروقات تارةً، ومن الخبز تارةً أخرى. تلك الأساسيات صار اقتناؤها في زمن شحّها ميزةً يحظى بها من انخرط في عسّكرة الحياة في سوريا، وهي صارت بهذا المعنى تتعدّى الموقف المعرفي مما يجري على الأرض، وتتعدّى الخندق الإيديولوجي الذي ينبغي الوثوق به وملازمته، وتتعدّى صوابيّة التطهّر من أفكار «الآخر» المنادي بسلطةٍ جديدة يعيد الشعب صوغها في عقدٍ اجتماعيٍّ جديد.
عسكرة لكامل الجغرافيا
على حدودِ السلطة السورية المشرفة على المناطق والمحافظات التي خرجت من تحت عباءة سيطرتها لا تكفُّ عسكرة الحياةِ أيضاً من الانقضاضِ على شحوب الأيام المتواصلة، لا مفرَّ هناك لمن بقي من دون نزوحٍ، أو خابت مساعيه في مغادرة تلك المناطق إلى مخيّمات اللجوء الخارجية، أو الشروع في رحلةِ هجرةٍ طويلة، إلا بالانخراط أيضاً في أحد الفصائل المقاتلة سواء من الجيش الحرّ أو من الألوية الإسلامية، حيث يتقاضون دخولاً شهرية، ولاحقاً من الانخراط بصفوفِ «النصرة» و«داعش».. ليس فقط لتأمين نفقات الحياة الباهظة، بل ولأن العسكرة هناك أيضاً تجدول الحصول على أساسيات الحياة وفق هرميةِ الانتماء إليها أو العمل تحت إمرتها، أو هي شرط لازم لقدر من السلامة، وإن كان غير كاف.
هكذا باتت معادلة العسكرة وتحويل الحياة المدنية إلى رتبٍ عسكرية تتدرج من قاعدةِ هرمِ الحياة إلى قمّته، وصفةً استحسن كل أطراف النزاع الدائر في البلاد تطبيقها، كلٌّ في مناطقه. وهو يستند على أية حال الى مناخ ثبّته حزب البعث حين جاء إلى السلطة في سوريا، ورتّب حياة الأطفال: صبية وبنات في منظمة «طلائع البعث»، وحياة طلبة المرحلة الإعدادية والثانوية شبانا وصبابا في منظمة «شبيبة الثورة»، وحياة الطلبة الجامعيين من الجنسين في «اتحاد الطلبة»، وحياة العمال والفلاحين في اتحادين يحملان اسميهما.. كل ذلك بهدف استمرار «الأعضاء» في تتبع الشعارات الكبرى، وإن على المستوى العاطفي فقط، وإن خاب الفعل الواقعي في إخراجها من حنكةِ مصائد اللغة إلى تجسيدٍ يضمن تطبيقها على الأرض. لذا بدا ذاك التتبع الشاق لعسكرة الحياة في سوريا، والمنغمس معظمهُ في شعاراتٍ كبرى أجازت مراراً عسكرة الحياة المدنية كفخّ أَحْكَمَ الإغلاق على باقي منافذ الحياة، وسَدَّها بعنايةٍ، وقَوَّضَ لاحقاً كل احتمالات التعافي من منظومات التفكير الجاهزة لدى الطرفين المتحاربين بكل تفرعاتهما، وهي المنظومات المعدّة مباشرةً للاستهلاك الآدمي.. ما أجهزَ على إمكانيةَ إنتاجِ حواملَ حقيقيةٍ للتغيير كان يمكنها صون الحراك المدني، وقطع ارتهانه للخارج الإقليمي والدولي، قبل أن يبتلعه سريعاً منطقُ العنف، فيفتح بابَ عسكرةِ الحياة ويشرّعهُ على جبهاتِ حربٍ لم تشبع بعد.
* صحافي من سوريا
السفير