عــام علــى ثــورة مصــر
عباس بيضون
عام على الثورة التونسية فعام على الثورة المصرية وعام على الثورة اليمنية والثورة السورية تقترب من العام، ليست هذه مجرد ذكرى فالعام انختم على صراعات مستمرة وكفاح يومي ومتابعة غير منقطعة. الثورة المصرية انتصرت وأزاحت مبارك وعائلته وجماعته عن الحكم. لكن هذا لم يكن وحده هدف الثورة. لم تتوقف الثورة عند اعتقال مبارك وولديه ووزرائه، لقد كان آخر أمر أصدره مبارك هو تفويض المجلس العسكري بالحكم، من الواضح انه لم يستقل ولم يفوض المجلس العسكري بملء إرادته، تم ذلك، كما تبين فيما بعد، بإرادة المجلس العسكري الذي رآها سانحة لاستلام الحكم. ضحى المجلس برأس النظام من أجل النظام. خاصة ان رأس النظام كان زحم العسكر بطموحاته إلى توريث ابنه وبالخصخصة التي كانت أحياناً هبات لمؤسسات الدولة إلى أتباع ومعاونين. لقد هددت البرجوازية، الطفيلية الخارجة من داخل نظام مبارك ومن انفجار النظام المصري الذي بدأ 1952 سلطة العسكر فها هي مؤسسات كانت في رعاية الجيش تسلم بسعر اسمي إلى أتباع مبارك، وها هو ابن الرئيس الذي ليس عسكرياً يُعد لحكم البلاد. كان الجيش إلى الآن هو مصدر الرؤساء وإذا ابتعد إسميا عن السلطة فلأنها في ضمانته وبتعهده. ألزم الجيش الذي تحرك بسرعة مبارك بالتنحي، كان بوده ان يبقى الأمر عند هذا الحد، إذ لا ننسى شهادة المشير طنطاوي التي كانت في مصلحة مبارك، فالجيش لا يريد بالطبع ان تتحول محاكمة مبارك إلى محاكمة للحكم العسكري، والجيش لا يريد أن تتحول الثورة المصرية إلى إطاحة بالنظام العسكري القائم منذ 1952.
أراد الجيش أن تقف الثورة عند استقالة الرئيس وكان متوقعاً منها ان تقف. الا يستوفي خروج مبارك من الحكم مطالب الثوار، إذا كانت الثورة ضد مبارك وحكمه، لكن وعي الثوار لم يكن في هذه الحدود، وعيهم لم يكن شعبوياً بحيث تتحول الثورة إلى «هوجة» وإلى عملية ثأر وإلى استعراض قوة. لقد بدا بوضوح ان شبان الثورة وان الثورة نفسها لم تكن مجرد «هوجة شارع» تستنزف بتدابير ثأرية واستعراضية. الثورة، وهذا المدهش، رغم انها كانت انفجاراً شعبياً، ورغم انها لم تكن في البدء ذات فلسفة سياسية، ورغم انها ليست منظمة ولا هي صنيعة تنظيمات قائمة. ورغم أنها لم تكن ذات إطارات حاضرة، رغم كل ذلك استجرت الثورة ما كان في الأساس جيلاً من الشباب. وإذا بدا انها لم تكن من تخطيط وصياغة مثقفين، فإن هذا لم يكن صحيحاً الا عند من يقصرون «المثقفين» على منتجي الثقافة، الكتّاب والمفكرين وعلى الإطارات الحزبية التي تصوغ ديباجات وخطوطاً سياسية او تعتنقها على الأقل. هذا تعريف للثقافة أدبي إلى حد كبير، إذ انه لا يأخذ في الاعتبار التعريف السوسيولوجي والوظيفي للمثقفين، المثقفون هم كل من تلقى إعداداً فكرياً، أي انهم المتعلمون بكافتهم. التعليم المكثف يخلق بالمعنى السوسيولوجي للكلمة طبقة عريضة من المشتغلين بالنظر او الفكر. هذا القطاع العريض يتواءم مع توسع الطبقات الوسطى، والأرجح ان ضيقاً جوهرياً بدأ منذ وقت كبير يداخل هذه الفئات وتلك الطبقات التي وجدت نفسها آخر الأمر بلا مستقبل، ثم أن التحديث الذي بلغ ذروته في الميديا الالكترونية، خلق عند الشبان نوعاً من مخيلة كوسموبوليتية. صار العالم قرية واحدة وصارت النماذج العالمية معروفة شائعة مما جعل من الأشواق الديموقراطية أمراً حقيقياً. الميديا الالكترونية لم تهب الشبان وعياً عالمياً فحسب بل منحتهم شيئاً كبيراً من الاعتداد والثقة بالذات وروح المبادرة والهجومية المفاجئة.
النموذج المصري، إذا تتبعناه، وهو النموذج الأكثر وضوحاً يدل بجلاء على ان من قاموا بالثورة هم طليعة، لن نفهم بالطليعة تلك القشرة الضيقة المقصورة على قيادات الأحزاب، سنفهم بالطليعة تلك النخب التي شارك في صياغتها وإعدادها التعليم المكثف واتساع الطبقة الوسطى وانتشار النموذج العالمي. أي ان الطليعة عريضة وواسعة وغفيرة وليست النواة القيادية فحسب، اتساع هذه الطليعة هو، ربما، الذي حجب القيادات. المساواة شبه القائمة بين أفراد هذه الطليعة لا تعني البتة فقدان القيادات، انها تشير إلى اتساع هذه القيادات لا قلتها، ثم انها تشير إلى نضج أخلاقي يجعل الاستعراض الشخصي وتقديم الذات أمرين منافيين للثورة والروح الثورية، انها صفات تنتمي إلى مجتمع قامت الثورة ضده، مجتمع الذوات والهواة وأصحاب النفوذ، مجتمع الأتباع والزلم والحاشية. لم تظهر الزعامات لكن القيادات قائمة، لم تظهر زعامات لأن مفهوم الزعامة نفسه منتقد ومتهم، القيادات هنا غير الزعامات، وهي موجودة في الشارع، صفاً بصف وكتفاً لكتف. انها موجودة في الشارع وهي لا تكتفي بأن تخطط وتكلف وتفوّض وترسل، انها أيضاً تعمل وتنفذ وتتحرك، إنها ترسم وتنفذ، تخطط وتعمل.
هذا ما يمكن استنتاجه لأي مراقب. تملك هذه القيادات، لا الزعامات قدرة على التحليل السياسي، قلما تخطئ وجهته لطالما أثارت استغراب كثيرين وهي تواجه المجلس العسكري. لطالما بدا انها تستعجل المواجهة، وطالما حمل تصدّيها على النزق والطفولية وروح الشباب وهياجه وتسرّعه، طالما تعرضت لتهم خاطئة وبدا لكثيرين انها تغرق البلاد في الفوضى ولا تكترث لتعب الناس وإرهاقهم في هذا الحراك الطويل. لكن الأحداث أثبتت أن هؤلاء الشبان يلتقون على موقف واحد، وهذا ما لا يستطيعه أحياناً حزب واحد. ثم ان هذا الموقف يمتّ عادة إلى تحليل صحيح وبتوقيت صحيح، ثم ان التحرك، الذي هو مظاهرة مليونية جديدة، يتم بنجاح ويحدث فرقاً واضحاً. حين أزيح الشبان عن ميدان التحرير، تراءى لي انهم أساؤوا تقدير الانتخابات وان مداومتهم في ميدان التحرير أثناءها قد تكون خطأ فهم لم يلتفتوا إلى ان ميدان التحرير أثناء الانتخابات فقد مركزيته وغدا هامشاً. تراءى لي ذلك لكني كنت بين الذين اندهشوا، بل انبهروا، وهم يجدون الشبان ينظمون تظاهرة مليونية ناجحة ويعودون إلى ميدان التحرير. لقد بدا ان الأمر يحتاج بالضبط إلى الصلابة والمواجهة والهجومية التي تميّز بها حراك الشبان.
الانتخابات حملت الأخوان المسلمين والسلفيين إلى البرلمان، كذلك هي انتخابات تونس والمغرب وربما الانتخابات اللاحقة في ليبيا واليمن وسوريا. لا نريد أن نطمئن أحداً. فالمصالحة بين الإسلاميين والديموقراطية والعصر ليست أكيدة، وقد يحصل ما سيحصل ولا نريد استباقه، انها الانتخابات ولا ننكرها ولا نرفضها. ولا ننسى أن الانتخابات النيابية بعد ثورة البلاشفة، لم تنته بأكثرية بلشفية، بل كان البلاشفة أقلية فيها، فروسيا الفلاحية انتخبت ممثلي الفلاحين. الانتخابات في مصر فرزت النخبة من الشارع ولا تعرف تماماً دلالتها في تونس والمغرب. لكن، أياً كانت النتائج، فالديموقراطية وجهة مفتوحة وقد غدت مطلباً شعبياً فالمعركة مستمرة. لقد أعادت لنا اعتبارنا وملكتنا من جديد أنفسنا وماضينا وتراثنا الحقيقي. ومهما يكن من أمر فإن الطريق أمامنا ولن نندم لحظة واحدة على ما فعلنا وقدمنا.
السفير