عفة التجنيس وأداة الهتك/ محمد المطرود
تأخذُ الكتابة_ أيُّ كتابة_ بُعداً تأويلياً، وربّما هنا الكتابة ستقتضي الريبةَ أولاً، وستثير الشكوكَ حول صمودها وقدرتها على الكشفِ والدهشة واختراقِ السائد الذي شكلَ أعتىَ التابوهات، وقد يكونُ هذا الكشفُ والتّشوفُ والولهُ بالوصولِ إلى أراضٍ بكرٍ، لم يحرث بها أحد من قبلُ مرهوناً بغيابِ الرقيبِ والحسيبِ، وخروجِ الكتابةِ الإبداعية من ذلك الفصل الجائر والمدرسيّ بينَ الأجناسِ الكتابيةِ، والذي بدورهِ، وأقصدُ التجنيس، وهدر الوقت في البحث عن جندر الكتابةِ، سيمهدُ الدور لرقيب من نوع آخر، يمتلكُ أداة حادة في لجمِ النص عن الخروجِ وتشكيل ذاته، الخاصة بهِ، بحيث يكون هذا الخروج لوحده، فيما لو أغفلنا الممكنات الأخرى، سمةَ دهشةٍ وحقّاً طبيعياً يمنحُ الصمود والمداومةَ لنص بقي لوقت طويل أسير نفسهِ، وبالتالي مُعطلاً المتلقي ومسقفاً قدرة التلقي لديهِ عند مستويات منخفضة ومحددة، وهذا ما يجعل القول وإن صار فيه بعض التجديف أو التعالي للتعالق مع ذات سماويةٍ صحيحاً، أو قريباً من التصوّف والتشوّف، إذ نقولُ أنَّ النصَّ باجتراحاتهِ أقربُ إلىَ تهويمٍ يأخذ الحقيقة من يدها، تهويم حملت الملائكة جزءاً منه لنا، لنكمل نحنُ جزءهُ المفقود، بحسب فاليري، أو أنَّ هذا الخروج عن النسّق على النسقِ أحياناً فيه تبرؤ للتخلصِ من رقيبٍ ليس من الضرورة معطلاً، إذ يمكنُ بتشييد العلاقة معهُ، الاستفادةَ من عطاياه، لعلَّ هذا المنحى في محاولتي للكشف عن العلاقة، سيكونُ في الذي سأورده من منهلِ ابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة، لتثبيت دلالتين، أولاً للإشارة إلى الزمنِ البعيد، وقربهُ من اللحظة التي أكتب فيها، وثانياً للمقبوس بوصفه مشحوناً بالشبهة وقابلاً للتأويل، على أنْ أخلصَ بأنّه بالذي يثيرهُ من ريبة، هو مفصل ذكي، يخلص صاحبهُ، ليقول مايريد، بردّ حالتهِ على أنّها حالة شرود، يمكن نسبُها لقوة قدرية جبّارة: “وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيهِ الرقيبان، من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمله”.
ولا أجترحُ فكرة متطرفةٍ حينَ أطالبُ بهتكِ ستار العفة بينَ تسمياتِ الكتابةِ، غير أنني هنا أثير نقطة خلافية موجودة، ميزتها الآنَ أنّها تلحّ بشكل أكبر على ضوء مقولة “موت”، من موت المؤلف إلى موت التاريخِ إلى موت الشعر، ولاحقاً إلى موت القصة فالرواية، وذلك بحسب انتعاشِ طرف على حسابِ الأطراف الأخرى، أو بانسحاب طرف لحساب طرف آخر، إنّما ما ألاحظه وليس بكثير من الجهد بأنّ أياً من هؤلاء الذين أُعلن عن موتهم ماتوا، بل هم أحياء، ويتجولون بيننا بكامل هيئاتهم، ربّما يخفتُ بريق أحدهم، لكن هذا الخفوت لايعني بأي حال من الأحوال انطفاءَ حياتهِ وتحولهِ من كائن موجودٍ إلى عدم.
في بحثي عن نصّ جديد سواء من خلال عملي على نصي، أو من خلال اللهاث الذي أبديه في ملاحقة نصٍّ مختلف لآخرين، لا أجيّلُ ولا أعطي أبواتٍ، إنّما أنظر في أصالته، قربهُ من الناص أو بعده، بمعنى واضح هنا لا أغيبُ المؤلف، وأضرب بمقولة “موت المؤلف” عرض الحائط، وأنسفُ النظرية بهذه الطريقة المتواضعة فيما أسرده هنا وأردّه إلى النقد وقد يردهُ قارئ إلى الثرثرة لا أكثر! وأسأل لأحيلَ آرائي إلى قراء تتفاوت مستويات التلقي عندهم، غير أنهم باختلاف أذواقهم والمدارس الحياتية والقرائية التي ينتمون إليها، أصفهم بقراء جيدين، حتى هؤلاء الذين يصرون على أن الشعر هو القصيدة المنتمية إلى أوزان الفراهيدي وإنّ قصيدة النثر ملتبسة ولايمكن تسميتها بالقصيدة، وحتى هؤلاء الذين يرون أن الرواية “حدوتة” في الدرجة الأولى أكثر مما هي اشتغال على المبنى الحكائي والمتن الحكائي والفنية التي تصل أحيانا حدَّ العبث، ويجدون رواية نجيب محفوظ رواية نافذة وكفى، أو ينظرون إلى روايات خالد خليفة على أنها مذهلة بانتمائها إلى الحكاية، وينظرون إلى رواية جبل الرب لآري دي لوكا على أنها ضربٌ من العبث، تغيب فيه الحكايةَ وبالتالي تضيعُ المتعة. كل هذا يجعل هذا القارئ بموازاته بقارئ آخر أكثر ذكاء شرطاً موضوعياً، ومحافظاً على مشروعية التساؤل والمحاكمة بين رأيين، سأعتبرهما وازنين، وجديرين بامتلاكِ طرفي المعادلةِ، لخوضِ فرضية جديدة، وصياغة مايشبهُ نظرية توفيقية، تؤسسُ لسؤال نقدي أصيل، أكثر مما تؤسس لنظريةٍ قد يكون أصلها موجوداً، لكنّه معتمٌ عليه، ولايؤخذ به، ضمنَ تدافعِ المصطلحات وضبابيتها أو تقاربها الوثيق من بعضها، فإن كنت هنا أطالب بهتكِ ستار العفة والتعدي على الجندر بما يخص النص، فالأمر ذاته مطروح ليشمل نقدَ الجندر وبالتالي النص الذي نرومُ خلقهُ من وجود وليس من عدم.
ستبدو المقاربة التالية بهذ الخصوص أقرب إلى الشعرية منها إلى النقد والموضوعية الرياضية أو المنطقية، المنطقية التي يجانبها النص الإبداعي بحسب هيدغر، ذلك أن متابعة حثيثة للحمرة الخفيفة في الافتتاح الذي تجريه الشمس في الكون أو في غياباتها، ليهبُ المنظرَ جماليةً، تخترقُ رتابة المنظر على جمالهِ وسطوته وحاجتنا له، وما الاختراق لقتامة المظلم أو لفتوحاتِ الضوء، بتلكَ القدرة الطبيعية على ابتداعِ صورة جديدةٍ بالمزاوجةِ بين ضدين: الضوء والعتمة، إلّا من كونه خطاً غائماً، ومتلطياً خلفَ قناع ما، وهو ما نجده في نص مشبعٍ بالشعريةِ، غير أنّه ينفكُّ من هذا اللعب بوضع خلفية سرديةٍ، تنتصر للتفصيل وللإخبار عما لا تستطيع الشعرية بفعل التكثيف الإخبارَ عنه، كذلك الحال مع نص سرديّ مولع بالتفاصيل والخبرية والحدث والفكرة، عندما يحتفي بالشعريةِ، ويأتي بما ُينظر إلية كمواربة، تقنّع السردي، وتجعلهُ طافحاً بالتأويلات التي ما كانت لتنوجد، لو أنَّ النص أخلص كليةً للسرد. من هنا يمكن القول إنني بفضل آراء توصلت بها من قراء، يتوازعون جهات عدة، أشرت لهم فيما موضع سابق، بأنْ التلقي ينحو إلى قبول ما هو كاسر للنمطية التي راهنت عليها الكتابة بتقسيماتها الحادة، وتحاول روح التلقي هذه الوصول إلى منطقة وسطى، لاتنتمي إلى تلك الحدية بقدر ما ستحاول انتهاك العفة وإزالة السواتر، إذا عرفنا إنَّ الكثير من الآراء التي تمت ملاحقتها تريد كتابةً مغامرةً، مجربةً، لاتولي كثير أهمية للتقسيم المدرسي الذي تنتهجه المدرسة النقدية القديمة وهي تفعل فعلها في تشتيت ذائقة القارئ.
أحسب هنا أثرتُ قضية، أو لأقل أسئلة أريد فيها اختبار ذهنية، لا أجدها راكدة ومستكينة، لكن غالب على أمرها بعض التراخي، الذي يشيعه الشعورُ العارم والعام باللاجدوى.
* شاعر وناقد سوري
ضفة ثالثة