عندما يتحدى موظف متواضع السلطة الكلية لـ ‘الأخ الكبير’!
رواية ‘1984’ لأورويل في المناخ العربي الراهن:
غمكين مراد
العالم مسكون بروح خرقاء؛ تكنى بالتحول؛ لتتنافى مع جمود إنسانية الإنسان؛ القلب النابض لهذا العالم والقائد لهذه الروح لتغدو الهاجس والمخيلة والعيش في بحث دائم عن لحظات تغتال أخرى في سبيل إثبات بقاء الإنسان إنسانا وجودا وكينونة.
ولأن وجود الإنسان محكومٌ بخيّر وشرير، يكون الخيّر في صراع مواجهة دائما مع شقه الثاني العاتم ، ويتجسد هذا الصراع في ‘السياسة النشاط الإنساني الأكثر حقارةً’ بحسب بورخيس، وبحيث لا يغدو’ النسيان فعالاً’ على حد قول نيتشه في الركون والخنوع أمام القوة الشريرة حين تحكم وتستبد، بل العكس متابعة البحث عن الوجه المضيء للإنسان وهذا يتطلب أن يكون الخيّر خلاقاً في ابتداع الروح.
إن ما يقدمه جورج أورويل الحائز على جائزة نوبل في الآداب في روايته ‘1984’ هي اللحظة التي يكون فيها النسيان فعالاً ، لا وبل مختلقاً من قبل نظام مستبد بحيث حوّل الإنسان إلى قالب جاهز لآلة ٍ وقودها أفكار الحزب الأوحد وحب الأخ الكبير
القائد الأبدي وتم له ذلك باغتياله الوعي ، لأنه من أحد مبادئ الحزب ‘.. الولاء يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة للتفكير ، الولاء هو عدم الوعي.’ص64.
يختار أورويل بطل روايته( سميث ونستون) أحد أعضاء الحزب نفسه وهو عبارة عن موظف متواضع في وزارة الحقيقة المختصة بتزوير وتزييف الحقائق والتاريخ،وهي وزارة من عدة وزارات هي وزارة الحبّ المختصة بالتعذيب والكره( وهي تقابل الأجهزة الأمنية) ووزارة الوفرة التي تعمل على تجويع المواطنين لتلهيهم بلقمة العيش، حيث يسرد أورويل على لسان ونستون سيرة ً كاملة لحياة يديرها ويتحكم بها الحزب و الأخ الكبير الذي يظهر في كل زاوية وانعطافة بصورته الضخمة المعلقة على جدران البلاد وسماءها وتحتها عبارة تقول: ‘الأخ الكبير يراقبك’ص8.
فالمواطن في أوقيانيا ( اسم الجمهورية) يبقى مشبوها طوال حياته وخلالها يجب أن يتابع أفلام الحروب تماشيا مع مزاج الحزب وغرائزه وأنفاسه وبحيث يبقى مشغولا دائما بدقائق وأسابيع الكراهية لأعداء الحزب ويلتهي بلقمة عيشه ولا يملك وقت فراغ للإنفراد بنفسه إلا عند نومه لكي لا يرتكب جريمة الفكر فـ ‘جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت ، بل هي الموت نفسه’ ص36. ولكي يصل الحزب إلى هذه المرحلة من التحكم فإنه يبدأ مع مواطنيه من الأساس والذي يمهد لخلوده وبقاءه أبديا حيث يعمد إلى احتلال الفكر في عقول الأطفال بضمهم إلى منظمات ترافقهم كظلهم وتتغير بتغير أعمارهم مع شمس سطوتهم وجبروتهم ‘إن أسوأ ما في الأمر أن الصغار بانضمامهم إلى منظمات مثل اتحاد الجواسيس كان يتم تحويلهم بشكل منهجي إلى رعاع صغار لا يمكن ضبطهم، وهذا بدوره يقتل فيهم أي ميل في الثورة ضد نظام الحزب ، بل على النقيض من ذلك سيصبحون عبيداً للحزب . فالأغاني والمواكب والرايات.. والهتاف والتدريب على الأسلحة كان ذلك نوعاً من اللعب الممتع بالنسبة لهم’ص32. وهذا لا يتم إلا بمستشارين يحملون من الشهادات أعلاها وفي جميع الاختصاصات ليشكلوا طمعاً وتناسياً زبانيةً يفتون للحزب في كل شأن يخص بقاءه مع الأخ الكبير على رأس هرم السلطة ، فمنهم من يختص و يُنظِّر لنماذج الحياة (علم اجتماع) ومن يحدد الصيغة المناسبة والراقية من وجهة نظرهم في الحياة التي يجب أن يعيشوها مواطنوها (الفلسفة) ومن يحلل نفوس البشر بحيث تتلاءم مع نفسية الأخ الكبير (علم نفس) ، ومن يلمُّ بالتاريخ ومستلزماته ليكتب بما يتوافق وينسجم مع الحزب ماضياً وحاضراً ومستقبلاً:’ فكل المطلوب هو سلسة لا تنتهي من الانتصارات على ذاكرتك( الاستحواذ على الحقيقة) أو باللغة الجديدة التفكير المزدوج.. أي أن تعرف ولا تعرف ، أن تعي الحقيقة كاملة مع ذلك لا تفتأ تقص الأكاذيب محكمة البناء .. أن تجهض المنطق بالمنطق ، أن ترفض الالتزام بالأخلاق فيما أنت واحدٌ من الداعين إليها ، أن تعتقد أن الديمقراطية ضربٌ من المستحيل وأن الحزب وصيٌّ عليها ، أن تنسى كلّ ما يتعين عليك نسيانه، ثم تستحضره في الذاكرة حين تمسّ الحاجة إليه..’ص43. ‘والتاريخ كلّه بمثابة لوحً تم تنظيفه، لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب’ص49، أي أن الحزب ينخر في جسد المواطنين بحيث يجعله دائماً في حيطة وحذر مع ابتسامته حين ترد ومع حركته إن تحرك ومع ملامح وجهه بحيث لا تنم عن أي تضاد مع الموقف الذي يعايش فيه أمراً يخص الحزب ، فونستون يدرك ‘إن ألذ أعداءك هو جهازك العصبي ، وما يعمل في نفسك من توتر قد يورطك فيما لا تحمد عقباه’ص76، وهذا يجعل من الفهم والذكاء من العيوب الدارجة في هذه الحياة’ كلما ازداد المرء فهماً اتسعت هوة الوهم ، وكلما اتقد ذكاؤه كان أقل حكمةً’ص253. يبحث ونستون عن تفاصيل الأحداث السابقة لثورة الحزب فقط ليدرك أي الحياتين أفضل أهي الحياة التي يتباهى بها الحزب وينسف كل حياة سابقة لها ، رغم أن ثورة الحزب على حد قول أحد أعضاءه المتقدمين لم تقم في سبيل تغيير حياة غير راضٍ عنها وتحويلها بما يتلاءم مع الحياة الطبيعية لأبناء أوقيانيا ، وإنما كانت غايتها الوصول إلى السلطة’السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكماً استبدادياً لحماية الثورة، وإنما يُشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي’ص311، إن المقارنة التي يتوخاها ونستون بالإضافة إلى ثيابه البالية والمشروب التعيس المشتق اسمه من مفاهيم ثورة الحزب (جن النصر) ودقائق وأسابيع الكراهية المبرمجة والمخصصة لشتم( غولدشتاين) أحد المنشقين عن الحزب وتشكيله لجماعة ‘الأخوة’ لتغيير نظام الحزب وقلب حكم الأخ الكبير ، وهو نفسه مؤلف كتاب يحلل فيه مبادئ الحزب الثلاثة’ الحرب هي السلام ، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة’ يدفع كل ذلك ونستون لابتياع دفتر ، رغم إن حمل هذا الشيء يعد إثماً ويدون فيه ما يعتلج في صدره بعد رؤيته للأحياء الفقيرة في البلاد فإن أول ما يدونه’ إن كان هنالك من أمل ، فالأمل في عامة الشعب’ص83، وهذا العمل في نظر شرطة الفكر يُعدّ جريمة فكر وذلك حتماً يؤدي إلى القتل ، ورغم أن الموت هو الأمنية المبتغاة إلا أن ما يسبقه يقشعر له البدن عند السماع به فكيف بأن تعيشه’لن يهم إذا ما قتلوك في الحال فذلك ما كنت تنتظره ، ولكن المهم ما يسبق الموت، هناك خطوات الاعتراف التي تمرّ بها، من الزحف إلى الأرض والصراخ طلباً للرحمة وطقطقة العظام المتكسرة والأسنان المهشمة وخصلات الشعر التي تُنتزع من رأسك حتى قدميه’ص118.
لكن أورويل لا يفوته بأن مطلب الحرية يحتاج إلى تضحية ومهما كانت النتائج سواء تحققت غاية إنسانية الإنسان أم لا فإن الهزيمة دوماً تكون للطرف الآخر’فإذا استطاع المرء أن يشعر أن بقاءه إنساناً هو أمرٌ يستحق التضحية من أجله، حتى لو لم يؤد ذلك إلى نتيجة فإنه قد يكون ألحق بهم الهزيمة’ص197. كما أنه يحدد أن كلّ ما ينم عن الحزب من مفاهيم ونظريات إنما تتم بلغة جديدة خالية من الشوائب التي تشذ عن قاعدة اللغة الخاصة بالحزب وأفكاره فحتى الكلمات تخرج عن قانون الحزب وتقوم بجريمة فكر، فللحؤول دون ذلك يعمد الحزب إلى ابتكار لغة جديدة على جثثها’أنت لا تدرك روعة تدمير الكلمات’ص62 ، ‘فالغاية النهائية للغة الجديدة هي التضييق من آفاق التفكير’ص63، فبهذه اللغة يتم نسف كل التجارب والمراحل السابقة للحزب، فيعود بالزمن بآلته الجامدة إلى الحكم الفرعوني بحيث يكون القائد إلهاً، ضارباً عرض الحائط كل المتغيرات الجذرية فيما بين هذا التاريخ وتاريخ الحزب من ما جاءت به الديانات السماوية وما نُزف من دماء في قرون محاكم التفتيش في سبيل إثبات إنسانية الإنسان بالديمقراطية’ إننا لا نحطم أعدائنا فحسب وإنما نغير ما بأنفسهم’ص289.
هذا ما يقوله المحقق لونستون في عملية التعذيب التي تهدف إلى محو كلّ شيء داخل الإنسان بل إلغاءه وإعادته آلة من صنعه
‘إن كلّ شيء سيموت داخلك ولن تعود قادراً على الحب والصداقة والاستمتاع بالحياة أو الضحك أو حب الاستطلاع أو الشجاعة أو الاستقامة، ستكون أجوف لأننا سنعصرك حتى تصبح خواءً من كلّ شيء وسنملأك بذواتنا’ص302.
لقد استطاع أورويل أن يحدد بدقة متناهية مكامن النفس الإنسانية بوجهيها الخانعة والمستبدة، كما أنه لم يترك عبر هذه الرواية
بقاء الأمل دائماً ويكمن في العامة لتنتفض انعتاقاً من استسلامها ويأسها واستشرافاً بكرامتها يعد تسامح طال أمده.