صفحات الناس

عن “أحرار الشام” مقالات مختارة

 

 

 

حسن صوفان ودولة “أحرار الشام” العميقة/ عقيل حسين

هل تكون البداية من إعادة ترتيب البيت الداخلي، أم في التغلب على الظروف الخارجية؟ (انترنت)

على عكس ما بدا عليه لحظة خروجه من السجن، يقف القائد الجديد لـ”حركة أحرار الشام الإسلامية” حسن صوفان، ممتلئ الوجه، قوي البنية، في آخر صورة له.

صوفان الذي كان آخر رجالات التيار الإسلامي السوري المعارض الخارجين من معتقل صيدنايا الشهير، والذي غادره بعد اثنتي عشرة سنة من الاعتقال، نتيجة عملية تبادل أجرتها “أحرار الشام” مع النظام مطلع العام 2017، كانت “الحركة” تعول عليه كثيراً في أن يلعب دوراً بعملية رأب الصدع فيها ومنع الانشقاقات عنها.

لكن “أبو البراء”، أو “شادي المهدي” (الاسم الذي اختاره لنفسه في مواقع التواصل الاجتماعي)، وجد نفسه في أصعب المراحل التي عاشتها “حركة أحرار الشام” على الإطلاق، والتي انتهت أخيراً بما يشبه الانهيار تحت الضربات التي تلقتها في تموز/يوليو على يد “هيئة تحرير الشام”.

وحتى مع تعيينه رئيساً لمجلس شورى “أحرار الشام”، المنصب الذي لم يكن موجوداً قبل ذلك، وقع ما كان منتظراً، فغادرت كتلة “جيش الأحرار” التي كانت تشكل أحد فريقي الخلاف في “الحركة” بعد أيام من تعيينه، لتنضم إلى “هيئة تحرير الشام”. وذلك، قبل أن يتم عزل أهم رموز فريق “المكتب السياسي” من مناصبهم؛ منير السيال وأحمد قره علي وغيرهم، الذين خاضوا أشرس الصدامات مع الفريق الأول، بقيادة كل من أبي جابر الشيخ وأبو صالح الطحان وأبو محمد الصادق، على مدار العامين السابقين. وبدا للكثيرين أن صوفان لعب دوراً حاسماً في عزل “المكتب السياسي”، وذلك في ضوء انتقاده العلني لبعض تصريحاتهم في تلك الفترة.

نقطة يستعيدها البعض اليوم للتأكيد على أن القائد الجديد لـ”الحركة”، ساهم أيضاً في ما آلت إليه اليوم. فصوفان المولد في اللاذقية عام 1979، لعائلة سلفية عريقة في المدينة، والذي درس الاقتصاد في جامعة تشرين، كان قد التحق بجامعة الملك عبد العزيز في السعودية لتحصيل العلوم الشرعية، وعاد إلى سوريا عام 2004، بعد عام ونصف العام قضاها في سجون المملكة بتهمة التواصل مع تنظيم “القاعدة”، حيث تسلمته سلطات النظام وحكمت عليه عام 2009 بالمؤبد. صوفان عاش أيضاً جدالات وحرب أفكار تيارات الحركة الإسلامية في صيدنايا، والتي كانت أهم محطاتها حادثة الاستعصاء المشهودة عام 2008، ويسجل له قيادة فريق التفاوض مع سلطات السجن، المفاوضات التي منعت وقوع مجزرة كبيرة، على عكس رغبة التيار السلفي الجهادي الأكثر تشدداً.

جزء مهم من رواية حافلة، جعلته وعلى الدوام محط أنظار “حركة أحرار الشام”، التي سعت وباستمرار لإطلاق سراحه، حيث اُعتبر منذ التأسيس واحداً منها، وشخصية لا بد من الاستفادة منها فكرياً في أي وقت، إلى الحد الذي وصفه فيه مسؤول ملف الأسرى في “أحرار الشام” لحظة نجاح صفقة إخراجه من السجن، بأنه “من وزن ومستوى أبو مصعب السوري”، الشخصية التي عرفت على نطاق واسع في تسعينيات القرن الماضي، مع الفلسطيني عبدالله عزام، بأشهر دعاة الإصلاح في التيار السلفي الجهادي.

لكن تصريحات حسن صوفان ضد تيار “المكتب السياسي” في آذار/مارس 2017، ومن ثم اقالة أهم رموز هذا المكتب، الذي كان قد حقق لـ”الحركة” حضوراً نوعياً على المستوى الخارجي، هو نقطة يرى فيها البعض مؤشراً مسبقاً على الفشل مستقبلاً، أو على الأقل، كما رأى آخرون، أنها أحد تجليات عدم انعتاق صوفان بعد من آثار السجن الطويل ورواسبه الفكرية، والتي تحتاج لسنوات حتى يتم التخلص منها، بدليل اعترافات القادة السابقين الذين أسسوا معظم الفصائل الاسلامية بعد خروجهم من السجن خلال العام الأول من الثورة 2011 بـ”عفو رئاسي”، بتأثرهم بهذه الحالة. وبالتالي، فقد كان خاطئاً، حسب هذا الرأي، منح الرجل مناصب بهذا المستوى، الأمر الذي لن تكون نتائجه إلا اندثار ما تبقى من “الحركة”، لا انقاذها.

المدافعون عن اختيار الشيخ حسن كقائد لـ”حركة أحرار الشام”، يرون أنه يمثل رجل المرحلة وأفضل الخيارات اليوم، خاصة بعد ظهوره القوي إعلامياً وميدانياً خلال المواجهات الأخيرة مع “هيئة تحرير الشام” حيث قاد بنفسه قوات من “الحركة” ميدانياً خلال المعركة. كما أن كلمته التي ألقاها مع بداية المواجهات، كانت من القوة والصراحة تجاه “الهيئة” ما يؤكد كفاية، حسب هؤلاء، على التزامه بموقف “أحرار الشام” الذي تأسس مع مراجعات قادتها الراحلين، وما بني عليها.

ومقابل بعض التصريحات التي تؤخذ عليه هنا وهناك، ومقابل أيضاً عزل بعض رموز الإصلاح من مناصبهم خلال ترؤسه مجلس شورى “الحركة”، يشير أنصار قائد “أحرار الشام” الجديد، إلى القرارات المفصلية الكبيرة التي اتخذتها “الحركة” خلال الفترة نفسها، وعلى رأسها اعتماد “القانون العربي الموحد” في محاكمها، وتبني علم الثورة بعد سنوات من الجدل، والعمل كذلك على مشروع الإدارة الذاتية للمناطق المحررة، وغيرها مما يكفي للتأكيد على أنه خيار سليم.

لكن هذه المقارنات والموازنات الثنائية، ما بين السلبي والإيجابي في مسيرة “الحركة” ومواقف رجالاتها منذ التأسيس إلى اليوم، ومحاولات توظيف هذه الثنائيات من أجل استمرار تقديم “الحركة” كمعقل وسطي، لم يكن سوى الخطأ الأكبر الذي يكاد يجهز عليها اليوم حسب الكثيرين، ولعل في تعليق الداعية المعروف والمقرب من “أحرار الشام” أبو بصر الطرطوسي، في هذا الصدد، والذي يقول فيه: “إن الأحرار أرادوا أن يمسكوا العصا من الوسط، وأن لا يخسروا شيئاً، فخسروا كل شيء”، ما يؤكد ذلك.

لكن إذا كان الطرطوسي يريد لوم قيادة “الحركة” على التأخر الدائم في اتخاذ المواقف الحاسمة، أو التعامل ببراغماتية مع القضايا التي جاوزت قدرتها على التحكم حتى تراكمت وخنقتها، فإن القاضي السابق في “أحرار الشام” أيمن هاروش، يذهب في تحديد المسؤوليات إلى نقطة متقدمة جداً.

هاروش وفي إحدى تغريداته الأخيرة في “تويتر”، اعتبر أن “الدولة العميقة في الأحرار”، هي السبب في فشل القائدين السابقين لـ”الحركة”، مهند المصري وعلي العمر، مشيراً إلى أن خليفتهما الحالي لن يكون مستقبله أفضل ما لم يضع حداً لها.

ولا يبدو استخدام هذا المصطلح “القيادة العميقة في حركة أحرار الشام” صادماً من قبل هاروش، بقدر ما تبدو دعوته لصوفان من أجل التخلص منها غير مفهومة، على الأقل، لطيف واسع من المراقبين، الذين يتساءلون عن أي سبب آخر أوصل صوفان نفسه إلى هذا الموقع، لولا دعم هذه القوة العميقة له!

فإن يتم استحداث منصب خاص به ورفيع في “الحركة” فور خروجه من السجن “رئيس مجلس الشورى” وأن تطلق يده في مفاصلها بعد ذلك، وأن يتم اختياره كقائد لها بعد أقل من ثمانية أشهر على خروجه من السجن، كل ذلك هل كان سيحدث، بنظر هؤلاء، لولا الاجماع عليه من قبل من يقف خلف “الحركة” ويوجهها، خاصة وأنه الرجل المقرب لآخر من تبقى من مؤسسي “أحرار الشام” منذ أيام السجن، وتحديداً أبو العباس التوت، الذي يعرف بأنه الأب الروحي لـ”الحركة”. هذا عدا عم كون صوفان صهر أحد أبرز قادتها الراحلين، محب الدين الشامي، الأمر الذي لا يعني أخيراً سوى استمرار سيطرة هذه القوة العميقة، رغم كل ما جرى، وبالتالي فهم يرون في اختياره رئيساً لـ”الأحرار”، بأنه يمثل دق آخر إسفين في نعش “الحركة”!

لكن من يعقدون الآمال على حسن صوفان، يرون أن القائد الجديد لـ”حركة أحرار الشام”، وعلى عكس الثلاثة الذين سبقوه، بدءاً بهاشم الشيخ، مروراً بمهند المصري، وانتهاء بعلي العمر، يمتلك من قوة الشخصية والحزم، ما يكفي لفرض سيطرته والقيام بدوره على أكمل وجه، من إعادة تجميع صفوف “الحركة”، وبث الروح فيها، ناهيك عن الكاريزما التي يتمتع بها، والهالة التي منحته إياها رفقته للقادة المؤسسين في المعتقل، إلى جانب رؤيته الشرعية والسياسية الحاضرة، على عكس أسلافه الثلاثة.

لكن عملية انعاش “الحركة” التي تعاني اليوم ما الكثير، لا تبدو مهمة سهلة أياً كان قائدها، فالمشكلة لا تتعلق بمنصب أو تيار أو مرجعية، بل بواقع معقد على الأرض أيضاً، وهو الأهم، حيث انحسرت قواتها في منطقة رئيسية هي سهل الغاب في ريف حماة، مع بقاء جيوب لها شبه محاصرة، في مدينة تفتناز وبعض قرى جبل الزاوية في ريف إدلب، وعدد محدود من المقاتلين في الغوطة والقلمون وحوران. الأمر الذي يحرم “أحرار الشام” من امتدادها الواسع الذي تمتعت به على الدوام.

وإلى جانب خسارتها للجزء الأكبر من قواتها وعتادها، لا يمكن اغفال خسارة “الحركة” لمواردها المالية، الأمر الذي سيعيق بلا شك عملية إعادة بنائها المنشودة، والتي تتطلب الكثير على هذا الصعيد، عكس ما يرى البعض من المتفائلين بأنه يمكن استلهام تجربة تأسيس “الحركة” التي بدأت من نقطة الصفر، لكن اختلاف الظروف ما بين لحظات الصعود والانحدار، لا يمكن تجاوزها بمجرد التفاؤل فقط.

زد على ذلك أن القيادة الجديدة لـ”الحركة”، وحتى قواها العميقة إن صح التعبير، ستجد نفسها وهي تعيد بناء الفصيل أمام جبهتين للعمل، ليس واضحاً أيهما أولى من الآخر. فهل تكون البداية من إعادة ترتيب البيت الداخلي، أم في التغلب على الظروف الخارجية، التي لا تتوقف فقط على انكماشها على الأرض، بل وتمتد، وهذا الأهم، على خروج “أحرار الشام” وبشكل كبير، من الحسابات، بعد أن كانت دائماً اللاعب الأقوى بين فصائل المعارضة!

لا يتوقف الأمر إذاً عند اسم القائد الجديد أو خلفيته اليوم بالنسبة لـ”حركة أحرار الشام” في هذه المرحلة شديدة الصعوبة، على أهمية ذلك. ومهما كانت ميزات هذا القائد أو سلبياته، فإن المسألة التي تواجهها “أحرار الشام”، أعقد بكثير من الحديث عن شخص أو أشخاص، بانتظار ما ستتمخض عنه فترة اعتكاف قادتها اليوم في النهاية، وكم ستطول هذه الفترة أيضاً؟

المدن

 

 

أحرار الشام: الثورة والدين والدرس الضائع/ فاضل الحمصي

خسرت حركة أحرار الشام الإسلامية، في غضون أيام قليلة، كثيراً من معاقلها الأساسية في محافظة إدلب شمال سوريا، وتحولت من أهم تشكيل عسكري معارض في البلاد، وواحد من أكثر الفصائل وزناً، إلى فصيل عسكري عادي، لا يشكل إلا رقماً من أرقام كثيرة في المعادلة السورية المعقدة.

التحول الخطير في مسار الحركة لم يكن وليد اللحظة الراهنة، فقد دفعت ثمن خطابها المتذبذب ومواقفها المترددة أكثر من مرة. وهي تأرجحت في خطابها بين شعارات وخطاب الثورة السورية العام وبين الخطاب الإسلامي السلفي، وحاولت التوفيق بينهما عدة مرات، حتى وجدت نفسها وحيدة في ساحة الصراع دون ظهير يحميها، ودون عقيدة قتالية لدى عناصرها تسمح لهم بالدفاع عنها في وجه الخصوم، الذين لم يجدوا أي صعوبة في ابتلاع العديد من المناطق التي كانت تسيطر عليها.

خطاب ضبابي ومتقلب

كانت حركة أحرار الشام الإسلامية من أوائل التشكيلات التي تعلن عدم التزامها بالولاء للجيش السوري الحر، وقالت عند تأسيسها إن هدفها الوحيد هو محاربة النظام، كما أعلنت عدم ارتباطها بتنظيم القاعدة، على الرغم من أن بعض مؤسسيها كانوا من أبرز عناصر التنظيم، مثل أبو خالد السوري، الذي نقل عنه أنه لا يفضل ارتباط الحركة بتنظيم القاعدة لأنه «من الظلم تحميل الثورة السورية وزر الأخطاء التي ارتكبها تنظيم القاعدة على مدى 30 عاماً من القتال».

مع بداية تأسيس الحركة، رفع مؤسسوها شعارات إسلامية، ونادوا بتأسيس «دولة قائمة على تعاليم الشرع الإسلامي»، إلا أن الطابع الثوري، والانتماء لثورة الشعب السوري، ظلا موجودين، إذ أكدت الحركة في بداية تشكيلها أنها ترفض: «الطابع النخبويِّ الذي ميّز تشكيلات القاعدة، وتؤكد على طابعها التفاعلي الشعبي، فلا جرم أن معركةَ إسقاط النظام تمرُّ عبر قناة الثورة الشعبية، لا جهاد النخب، مهما بلغت معايير الانتخاب والاصطفاء».

رويداً رويداً، اختفى الخطاب الثوري، وتحولت طبيعة الشعارات، نتيجة تغير الظروف التي عاشتها الثورة عموماً، إلى شعارات إسلامية صرفة، وخصوصاً عند اندماج الحركة مع عدة فصائل في الجبهة الإسلامية، ورفعهم شعار «مشروع أمة»، مع تهميش واضح لشعارات الثورة السورية الأولى. وبعد تفكك «الجبهة الإسلامية»، ولاحقاً اغتيال قادة الصف الأول في الحركة، تغير الشعار المرفوع إلى «ثورة شعب»، في محاولة من الحركة لكسب الحاضنة الشعبية التي كانت قد خسرتها تقريباً، واستمرت هذه التحولات باتجاه محاولة التقرب من الحاضنة الشعبية والفعاليات الثورة، وصولاً إلى الإعلان قبل أسابيع عن انتمائهم الكامل للثورة عبر رفع علمها.

الهزة الأولى كانت هزة فكرية

الهزة العنيفة الأولى التي تلقتها حركة أحرار الشام كانت في الرقة، فبعد أن كانت الحركة تسيطر على قسم كبير من المدينة، وتنظيم الدولة (داعش) يسيطر على القسم الآخر، اندلع صراع عنيف مطلع العام 2014 بين فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية من جهة وتنظيم الدولة من جهة أخرى، وذلك بعد إقدام الأخير على إعدام الطبيب أبو ريان، مدير معبر تل أبيض، والمنتمي إلى حركة أحرار الشام، فشنت الفصائل على إثر ذلك حملةً على تنظيم الدولة، وتمكن من إنهاء وجوده في اللاذقية وإدلب، وطرده من مناطق واسعة في حلب وريفها.

وعلى الرغم من محاولات حركة أحرار الشام، في بداية الأمر، «النأي بنفسها»، إلا أن التنظيم فضل القضاء على وجود الحركة في الرقة، والاستفراد بحكم المدينةـ ليتمكن من السيطرة عليها خلال أيام. ولكن لم تكن خسارة الأرض هي الهزة الكبرى للحركة في الواقع، بل كانت الهزة فكرية بالدرجة الأولى، إذ أصدر حينها أحد القادة العسكريين للأحرار في الرقة أمراً بقتال داعش، وعدم السماح لهم بالسيطرة على أحد مقرات الحركة، إلا أن العناصر لم ينصاعوا للأوامر، وفضلوا عدم قتال من حسبوهم «إخوة الدين»، وقاموا بتسليم أنفسهم مع سلاحهم لعناصر التنظيم، الذين قاموا على الفور بإعدامهم جميعاً رمياً بالرصاص، وكان عددهم نحو 140 مقاتلاً. وهو المشهد الذي تكرر حينها عدة مرات في الرقة، حسب بعض الشهود.

بعد هذه الحادثة، على وجه الخصوص، أدرك قادة الأحرار أن العقيدة القتالية لدى عناصرهم غير ناضجة، وأنه لا بد من عملية إعادة تأسيس للعقيدة القتالية، بحيث يتبنى العناصر فكراً قادراً على مواجهة نظام الأسد من جهة، و«بغاة المسلمين» من جهة أخرى.

مرحلة التغير الكبير في فكر الحركة

اعتمدت حركة أحرار الشام على الفكر السلفي منذ لحظة تأسيسها، وبعد هزة الرقة، حاولت الحفاظ عليه، مع محاولة دمجه بالخطاب الثوري السوري. وكان التغير واضحاً لدى قادة الحركة، فقد باتت تصريحاتهم تتحلى بقدر أكبر من الواقعية، وبدؤوا بالاعتماد أكثر فأكثر على سياسة شرعية تتوافق مع الفكر الثوري، وهو ما أغفلوه لفترة طويلة من الزمن.

مقدمات التغيير كانت واضحة قبيل اغتيال قادة الحركة، وظهرت في تصريحاتهم وأقوالهم خلال لقاءاتهم أو اجتماعاتهم، عندما بدا ميلهم إلى توحيد الصف والتقارب مع فصائل الجيش الحر، وهو ما كانت قد تهربت منه الحركة مراراً محاولةً الاستقلال بنفسها، والتوحد في غرف العمليات العسكرية فقط، مع الابتعاد عن الاندماج الكامل مع أي فصيل آخر.

على سبيل المثال، قال أبو يزن الشامي، شرعي الحركة، في آخر لقاء له نُشِرَ بعد اغتياله: «عدت إلى القرآن، وكأني أقرأ للمرة الأولى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير. ذلك هو الفضل الذي حرمنا أنفسنا من سعته بضيق تياراتنا وفصائلنا، الفضل الذي فاتنا لأننا اعتقدنا أن الطريق إلى الله حكر علينا، وأننا وحدنا الناجون إليه والسائرون فيه. ينكسر الصف لما يظن بعضه أنه خير من فيه، وأن الآخرين عالة على الطريق، يثقلونه هو عن بلوغ آخره. ما صرت أعرفه، أنه لم يكن عالته إلا نحن، نحن الذين أخرنا سير القافلة بحواجز وعراقيل لم تكن كما ظنناها واجبة».

كلام قادة آخرين يثبت مدى عمق التغير في تفكير قادة الحركة بعد معركتي الرقة ودير الزور، حيث مال معظمهم إلى التصالح مع فصائل الجيش الحر، وبدؤوا بخطاب جامع، وابتعدوا عن كل ما يثير الشقاق، وكان قائد الحركة أبو عبد الله الحموي من أبرز الداعين للتقارب مع الفصائل، وقال في إحدى تغريداته على تويتر: «الاصطفاف في ثورات الشعوب لا يقوم على سياسة الاستقطاب. وإنما على جمع الساعين إلى هدف مشترك جامعٍ بما يرضي الله تعالى». ذلك بالإضافة إلى مواقف أخرى كثيرة، كلها كانت ساعية للتقارب مع بقية الفصائل.

لم يسعف الوقت قادة أحرار الشام المؤسسين لإحداث تغيير في فكر الحركة، حيث تم اغتيال 40 منهم في التفجير الشهير بالمقر صفر الواقع في بلدة رام حمدان بريف إدلب، وكان من أبرزهم أبو عبد الله الحموي قائد الحركة، وأبو يزن الشامي شرعي الحركة. والجدير بالذكر أنه لم تظهر أي نتائج رسمية للتحقيق الذي جرى بحادثة الاغتيال، ولم يتم كشف دوافعها الحقيقية، ولا الجهة المنفذة للعملية.

نشوء الأجنحة المتصارعة داخل الحركة

استطاع بعض من تبقى من القادة تدارك تبعات حادثة الاغتيال، وأعادوا التوزان إلى صفوف الحركة بعض الشيء، ثم بدأت أعداد الحركة بالازدياد، وإنجازاتها باتت أكبر، خصوصاً بعد انضمامها إلى تحالف جيش الفتح الذي ضم عدة فصائل كان أبرزها جبهة النصرة، ودخول مدينة إدلب والسيطرة على المحافظة بالكامل. حتى أن الحركة نشرت قبل أشهر أرقاماً لأعداد مقاتليها، وقالت إن عددهم بلغ 25 ألفاً.

لكن الازدياد العددي تبعه قلق تنظيمي واضح، أدى إلى حدوث اصطفافات ونشوء أجنحة عسكرية، وأوضح تيارين كانا داخل الحركة هما:

– التيار الذي يعتمد على العمل السياسي بشكل كبير، ويفضل تسخير جميع الإمكانات لخدمة الهدف السياسي، وأبرز وجوهه لبيب النحاس.

– التيار الذي لا يؤمن بجدوى العمل السياسي، ويصر على أولوية تسخير الإمكانات للعمل العسكري، وأبرز وجوهه كان أبو صالح الطحان.

انشق الأخير مع عدد كبير من العناصر مطلع العام 2017، وانضم إلى هيئة تحرير الشام عند تأسيسها. والهيئة عبارة عن تحالف عسكري، ضم عدداً من أهم فصائل الشمال السوري، أبرزها جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وجيش السنة، وجبهة أنصار الدين، وحركة نور الدين الزنكي. (انشقت حركة نور الدين الزنكي مؤخراً عن هيئة تحرير الشام احتجاجاً على قتال الهيئة لأحرار الشام).

في الأوان ذاته، لم تكن الفصائل المنضوية تحت لواء الحركة مندمجة معها بالكامل، بل كانت كيانات مستقلة قاومت الذوبان ضمن صفوف الحركة. تلك الفصائل كانت تجمعها انتماءات أخرى، فكان لكل جماعة متقاربة فكرياً منها تشكيل عسكري خاص، وأحياناً لكل قرية أو عائلة كبيرة فصيلها. ورغم انضوائها تحت راية الحركة، إلا أنها تستطيع في أي لحظة الانشقاق عنها والانضمام إلى تشكيل آخر، أو على الأقل رفض الأوامر الصادرة عن قيادة الحركة. وهو ما حدث بالفعل خلال الصراع الأخير مع هيئة تحرير الشام، عندما نأت عدة فصائل تابعة لحركة أحرار الشام بنفسها وفضلت الوقوف على الحياد، رافضة الانصياع لأوامر قادة الحركة، ليعود شبح الرقة ودير الزور إلى مطاردة الحركة من جديد.

الصدام الأخير مع هيئة تحرير الشام

تمكنت هيئة تحرير الشام أواسط تموز الماضي من انتزاع معاقل رئيسية للحركة، بعد معارك محدودة داخل مدن وبلدات محافظة إدلب. وبحسب مصادر متقاطعة، فقد رفض كثيرٌ من عناصر حركة أحرار الشام القتال ضد هيئة تحرير الشام، لاعتقادهم بأن نظام الأسد هو المستفيد الأكبر من هذا الاقتتال، وأعلنت عدة فصائل نأيها بنفسها عن القتال، وقررت الانسحاب من الحركة، وهو ما أدى، على ما يبدو، إلى أن تحقق الهيئة انتصاراً سريعاً على حساب الحركة.

وبحسب إعلامي مقرب من حركة أحرار الشام، فضل عدم الكشف عن اسمه، فقد رفض معظم عناصر حركة أحرار الشام القتال، وانخفض عدد مقاتلي الحركة بعد الانشقاقات التي حدثت من 25 ألفاً إلى حوالي 6 أو 7 آلاف، يتوزعون على الشكل التالي: 600 مقاتل في ريف حلب الغربي، 2500 مقاتل في سهل الغاب وجبل الزاوية، 2000 مقاتل ضمن لواء الإيمان الحموي، حوالي 800 مقاتل يتوزعون على لواء أحمد عساف وفوج إدلب ولواء عمر الفاروق، بالإضافة لأعداد تقدر بالمئات تتوزع في غوطة دمشق ودرعا وريف حمص الشمالي.

من جهة أخرى عملت هيئة تحرير الشام على اتباع استراتيجية عسكرية فعالة، من خلال توجيه قوتها نحو معاقل الحركة الأساسية، والسيطرة عليها بأسرع وقت ممكن، وهذا ما كان لها بعد أن نجحت بالسيطرة على مدينتي سرمدا والدانا في ريف إدلب، بالإضافة إلى السيطرة على أطراف جبل الزاوية ومدينة سراقب ومعبر باب الهوى. كذلك استغلت الهيئة حجة أنها دعت حركة أحرار الشام للاندماج معها في عدة مناسبات، لكن قيادة الأخيرة كانت قد رفضت هذه العروض لعدم اقتناعها بأهداف هيئة تحرير الشام والسبل التي تتبعها لتحقيق هذه الأهداف، الأمر الذي سهل على قيادات الهيئة وشرعييها صبغ الاقتتال بدهان شرعي يبيح لهم قتال عناصر الحركة والسيطرة على مناطقهم ومقراتهم بحجة «توحيد الصفوف».

***

برأي كثير من المتابعين، تعود الخلافات بين الإسلاميين الذين شاركوا في الثورة السورية إلى السنوات التي سبقت اندلاعها، عندما جمع سجن صيدنايا العديد من أبرز القياديين الذي أسسوا كتائب إسلامية لاحقاً. في ذلك الحين، انقسم نزلاء السجن انقسامات حادة على أسس فكرية ومرجعية، تعود إلى التيار الذي يتبعه الأشخاص الموجودون فيه. وما عُرِفَ عن مؤسسي حركة أحرار الشام، أو الذين انضموا للحركة في وقت لاحق، ميلهم الشديد إلى تفادي الصدامات والمشاحنات، وعدم الدخول في جدالات، ما جعلهم يبدون ضعيفي الحجة بنظر كثيرٍ من نزلاء صيدنايا، خصوصاً من خاض تجارب القتال في أفغانستان والعراق، وهم القسم الأكبر من نزلاء السجن. وقد انعكست طبيعة أولئك المؤسسين، ومن تولى القيادة من بعدهم، على طبيعة سياسة الحركة، التي لم تتخذ قرارات حاسمة في كثير من المواطن، رغم علمها بما يحاك لها مستقبلاً.

يذكر الصحفي دياب سرية، وكان أحد معتقلي صيدنايا، على صفحته على فيسبوك، أنه عند حدوث استعصاء صيدنايا عام 2008، قامت مجموعة أبو خالد العراقي (معظم مجموعته انتسبت إلى داعش)، وقسم من مجموعة أبو حذيفة إبراهيم الظاهر (قسم كبير من المجموعة شكل جبهة النصرة) بتكفير مجموعة أبو العباس أبو التوت وحسن صوفان (المجموعة التي ساهمت بتشكيل أحرار الشام)، والسبب المباشر كان صفقة إخلاء الأسرى والضباط من الشرطة العسكرية. ويقول سرية إن المجموعات التي قامت بالاستعصاء اتفقت يومها على إخلاء الأسرى والإبقاء على الضباط، لكن تم تهريب الضباط مع آخر دفعة من دفعات الأسرى، واتهمت مجموعة أبو العباس أبو التوت وحسن صوفان بتهريبهم، ما دفع مجموعة أبو خالد العراقي لتكفيرهم علناً، وقسم من مجموعة أبو حذيفة كفّرهم أيضاً، وآذوهم وضيقوا عليهم، ولم يردّ من تعرض للأذى بأي شيء، وكانوا يردون: «إخوة في الدين لا نقاتلهم ولا نحاربهم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً».

وعند اندلاع الاقتتال الأخير مع هيئة تحرير الشام، فضل القسم الأكبر من عناصر أحرار الشام اعتزال القتال وعدم الخوض فيه، لاعتقادهم أن تحرير الشام ليست عدوهم من ناحية، ولخشيتهم من قتال المسلمين من ناحية أخرى، عملاً بالحديث النبوي الشريف: «لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من أن يراق دم امرئ مسلم»، في ما يبدو أنه تكرار لما حدث في صيدنايا قبل سنوات!

بعد كل الخسارات التي لحقت بها، استطاعت حركة أحرار الشام لملمة صفوفها من جديد، وتم تعيين قائد جديد للحركة، هو حسن صوفان المعتقل السابق في صيدنايا والمذكور في شهادة دياب سرية أعلاه، والذي يوصف بأنه شخصية توافقية، ومحل إجماع كافة الأجنحة المتبقية في الحركة، ولكن الأرجح أن صوفان لن يكون قادراً على تجاوز الأزمة التي تعصف بأحرار الشام، إلا إذا استفاد من درسي الرقة وإدلب، وعمل على تدارك أسباب الفشل فيهما بخطوات جريئة وثابتة.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى