عن أحوال زهراب/ عزيز تبسي *
في الصباح، وقف في زاويته المعتادة، لكنه لم يكن يتأمل مشهداً ساكناً أو ينتظر توارد أولاده من آخر الشارع، كان مرتبكاً وهو يتفقد حوائجه، يقلب كل حين كمّ سترته الصوفية ليدقق النظر في ساعته. زوجته قربه وأولاده يتحلقون حوله، لم يكن أحد قد أتى لوداعه، ربما لأنه لم يخبر أحداً. كانت حقائبه أعلى من قامته، وكأنه قرر حمل المدينة معه، إلى حيث قرر الرحيل.
وكان يقف منتصباً على زاوية الشارع، بشعره الرصاصي المرسل إلى الخلف والممسد بالماء الحنون، يتابع انفكاك الناس عن بعضهم في المنعطفات وتقاطع الطرق، والتحامهم على الأرصفة المستقيمة، وعبور باعة الخضار دافعين مقابض عرباتهم الخشبية، باحثين بعيونهم التي لم يشبعها النوم الأنيس، عن زاوية لا تشغلها سيارة، يركنون بها حمولاتهم بأناة، ليشعلوا بعدها لفافة تبغ، قبل إخراج الميزان من عمق العربة المغلق، وينادون بأصوات مبحوحة عن بضاعتهم الطازجة.
لا يكف لسانه عن الحركة في جوف فمه المغلق، كأنما ينظف زوايا أسنانه من بقايا قضمات فستق، أو يبحث عن عبارة مخنوقة لا تسعفه لغة الضاد الثقيلة على نطقها بتركيز كاف. تنبعث مع حركة ذراعيه رائحة تبغ ثقيل مطمورة في ألبسته، ونثرات كحول تتبخر من فمه، الذي لا يفتح إلا للنطق بعبارة وجيزة، ويعود إلى انغلاقه المحكم.
ينتظر بمزاج رائق، توارد أولاده من المدرسة كخواطر موسيقاه الارتجالية، التي أعتاد صنعها والاسترسال خلفها حتى أواخر الليل، في المطعم الذي عزف فيه لسنوات على البيانو الكهربائي. «الذي جذبني إلى هذا العمل، أن جميع من يأتينا، يأتي بقصد الفرح، حتى لو كان حزيناً، ومن واجبنا أن نساعده على تحقيق رغبته».
لا تنفرج شفتاه بابتسامة، إلا للسكاكر المشبعة بروح النعناع، ولأصوات الكمانات المتسربة من النوافذ المفتوحة في البيوت المجاورة، لأولاد عائدين لتوهم من دروس الموسيقى، ويتدربون باعتيادية على نوتات دروسهم، حيث يفشلون لهنيهة في تحقيق التوافق بين نقلات أصابعهم الثقيلة على الزند وحماسة يدهم الأخرى ترقّص حركة القوس الخفيف «الموسيقى تقرب بين الناس أكثر من الكلام»، ينطق العبارة، وكأنه يتحدث لنفسه.لم يسأله أحد عن معنى تحديقه الطويل الشارد، فالمشهد أمامه ثابت. لا بحر يطرح غرائبه ولا بادية تستدرج الناس بسرابها، عمارات متلاصقة كخواب من فخار، مكلومة صدورها وأعناقها، مندلقة أحشاؤها من أبواب حديدية مغلقة من منتصفها. ولطالما بدد ساعات النهار في إنتظارات، معلومة مواقيت أحداثها، موعد ذهاب الأولاد إلى المدرسة، وموعد عودتهم منها، تسوّق حاجيات البيت، الإطمئنان على أهله… العكوف في المطبخ لإعداد الصحن اليومي من «الكبة النية»، مثلثاً مقاديرها بتساو منتظم، برغل ناعم، هبرة خروف، فليفلة حمراء حادة، ويفرك الخليط بعناية مع مكعبات الثلج، على طبق من فخار….ـــ ما خصائص الكبة النية التي تصنعها؟ـــ أن تكون نيئة!
ويضيف بعد وهلة، وحارّة!!يخلد بعد الطعام إلى نوم عميق، يأخذه حتى أواخر المساء، ينهض ويستعد للذهاب إلى العمل. حياة رتيبة، صنعها وفق هندسة توافقية؛ لكنه منذ أكثر من عام ونصف بلا عمل، بعد أن أغلق المطعم الذي يعمل به، حاول بلا جدوى أن يعطي دروساً في الموسيقى، امتدت يده إلى مدخراته القليلة، باع أقراط وخواتم زوجته، وتذكارات حملها من أسفاره العديدة، لوحات جدارية من الحرير، حيوانات أفريقية من العاج، أواني نحاسية، علب مطعمة بأصداف بحرية… وبات يرد على عبارة نافلة متداولة «قربت تخلص»، بعبارة وجيزة تخرج من جوفه المحروق بالكحول والتبغ: «قربنا نخلص»!!وكان يأتي من حين لآخر على ذكر الصابون، الذي كان يوزعه العسكريون على جنودهم أثناء تأدية الخدمة الإلزامية «كان ينظف جيداً، لم يقمّل أي منّا»، لكننا افتقدنا فيه للرائحة العطرية، رائحة الصنوبر التي نحبها، والتي كانت كفيلة بإخراجنا من الحمّام الضيق إلى غابات «الفرنلق». يومها لم يكن لنا أعداء حقيقيون سوى القمل!!
ويلتفت حوله ليتأكد، ترى هل اختار العبارة المناسبة لوصف الأعداء ومديح الصابون، أم تراه تعثر كعادته.أدرك متأخراً، أن اسمه آت من وعاء الثقافة الفارسية الواسع والعميق، وأن له حضوراً أثيراً في ملحمة «الشاهنامة» للفردوسي، التي شكلت المعادل الملحمي الفارسي للإلياذة الإغريقية… زهراب إبن رستم، أبرز أبطال الملحمة، الذي برع كمقاتل وعاشق بقلب كبير، حارب في جيش طوران آسيا الوسطى… لكن أهذا هو الوقت المناسب لنسأل عن ضرورة أن يكون المقاتل عاشقاً، أو لا يكون سوى قاتل أعمى.ومتأخراً كذلك إدراكه أن الذين اتخذوا القرارات الحاسمة في مذابح الأرمن في 24 نيسان 1915، هم من الضباط الألمان والنمساويين، الذين كانوا القادة الفعليين للجيش العثماني، قبل وثبة حزب الإتحاد والترقي على الحكم. وسيأتي أولادهم الأيديولوجيون والعسكريون في ما بعد، لاتخاذ قرارات إبادة أشد هولاً في الشعوب السلافية والشيوعيين والغجر والجماعات اليهودية.
وأن ذكر اسم الله قبل الذبح لا يساهم قط في تهدئة اختلاج عنق الذبيح، لكنه قد يسهم في تسويغ أعناق المذبوحين على سكين الذابح، حين يتطلع لتهدئة خواطره من حين لآخر بذكر اسمه، ونقشه على حربته وساطوره.وأنه من المستحيل أن تجد في هذه المنطقة شعباً نقياً. «لا يمكن الاستدلال على المكونات العرقية للشعوب، كما بات يستدل على أعداد الكريات الحمراء والبيضاء ومقادير السكر والشحوم في الدم» وأن المدن التي اعتبرتها الحركة القومية الأرمنية، مدناً أرمنية، ليست كذلك على مستوى السكان، ولا هي كذلك في اللغة والثقافة…
شريط طويل من مدن وبلدات مختلطة أقوامياً من الجماعات التركية والكردية والعربية والأرمنية والسريانية واليونانية… ولا يشكل هذا استثناء في نتائج حركة النزوحات السكانية وتشكيل الحواضر، حين تتحقق الشروط الجاذبة التي توفرها مناطق تصادفت على منابع مائية وسهول زراعية، وطرق التجارة البعيدة والأمان السياسي النسبي، مما يدفع إلى عدم الاطمئنان أثناء إنتاج سردية المدن وهوياتها إلى المرجعية الواحدة، ليس لكونها تلغي سواها لإظهار تماسكها الشكلي وتثبيته، بل لكونها مضطرة للتورط بالتلفيق والكذب.
حينها ينبغي عدم الاستسلام إلى مؤرخي العسكر المنتصرين، وضرورة الشروع بسرد تاريخ المغلوبين.وأن المذابح والتهجير، من مآلات الخيارات الخاسرة للثوار في كل آن، وتكون حروب الإبادة الخاتمة الأكثر كارثية للثورات الشعبية المهزومة، وكأنها فعل جنوني لا يكتفي بذبح الثوار والتنكيل بهم، بل يتعداه لاجتثاث فكرة الثورة برمتها.ويصغي ليتبين ما وراء الكلمات، ساعة يقول أحد الذين يقفون قربه، بعدما يرى الأولاد مقبلين من آخر الشارع «يجب أن يحظى الأولاد بتربية صالحة»، ولم يعقب على العبارة بحرف، كأنه غير معني بها، لكنه قال يوماً «ترى ما هي التربية الصالحة؟».
أن يركض الأولاد من آخر الشارع لتقبيل يديك، عوضاً عن الارتماء في حضنك واستنشاق رائحة ثيابك، وفرك وجناتهم الطرية بشعر ذقنك الشائك، وأن يكرروا الحكايات التي ترويها، دون التدقيق في مدى خداعها وتنافرها، أن يشكروك على وجبات الطعام التي تقدمها لهم، وكأنك مدير ميتم، أو متفضل على إسكات جوعهم، لما ننجب أولاداً، إن كنا عاجزين عن حبهم وإطعامهم واكسائهم بأجمل الملابس، وإسعادهم.ـــ هل ستعود إلى أرمينيا؟ـــ لست من أرمن أرمينيا، والأرمن الذين يعيشون هنا ليسوا إلا من الأرمن التابعين لولاية حلب التاريخية، أو لولاية ديار بكر، التي ما زال الأرمن يسمونها «ديكران دار».
إنه الوقت المناسب، لنتذكر أن حلب مدينة متعددة القوميات والثقافات، وهذا مركبها التاريخي الذي صنعته آلاف العناصر منذ زمن بعيد. حتى بدايات القرن العشرين، أي أواخر الحكم العثماني، كانت ولاية حلب تمتد غرباً من البحر الأبيض المتوسط حتى حدود الموصل شرقاً وضمنها الإدارة الذاتية للواء دير الزور، ومن حدود حماه جنوباً حتى ولاية ديار بكر شمالاً، التي تمتد عليها مدن مرعش وسروج وأورفه وعينتاب…
ذبلت أصص النباتات على الشرفة، والأباجورات مغلقة بإحكام، وما من رجل يقف على ناصية الشارع، ينتظر توارد أولاده، كإرتجالات موسيقاه الحنونة.
* كاتب من سوريا
السفير