عن أفول الزمن الأيديولوجي/ ماجد كيالي
ليس القصد الأخذ بمقولات «النهايات»، إذ أن مقولات كهذه لا معنى لها، فضلاً عن أنها تتعامل مع التاريخ باعتباره خطاً مستقيماً، ذا بداية ونهاية. كما ليس القصد من ذلك تبني أطروحة «نهاية الأيديولوجيا» لأنها مقولة إطلاقية وإرادوية، إذ ستبقى ثمة جماعات من البشر تستهويها أو تلهمها أو تتحكم بعقولها هذه الأيديولوجية أو تلك.
بالتالي فإن المعنى هنا يفيد فقط بأفول الزمن الأيديولوجي، إذ الأيديولوجيات لم تعد محرّكة التاريخ، أو ملهمة الجماعات، على نحو ما تم تمثله في ثورات القرن العشرين. وهذا لا يقتصر على الأيديولوجيتين القومية والشيوعية، وإنما بات يشمل أيديولوجيا العلمانية والإسلام السياسي أيضاً، على نحو ما نشهد، بخذلان أو بقصور «العلمانية»، كما بانفجار تيارات الإسلام السياسي، بتنوعها، وبتوزّعها على تيارات وعصبيات متناحرة أو متقاتلة، أو بقيام مراجعات تقطع مع التجربة السابقة، على نحو ما شهدنا أخيراً في السعي إلى تحويل حركة النهضة التونسية إلى حزب سياسي، وترك العمل الدعوي.
منذ زمن انهارت أيديولوجيا القومية العربية، أو ادعاءاتها، مع هزيمة حزيران (1967) التي قوّضت الأوهام حول نظامين (في مصر وسورية)، تغطّيا بشعارات القومية العربية، والتي كشفت خواء هذه الشعارات، وعجز هاتين الدولتين عن الصمود أمام دولة صغيرة. كما تكشف ذلك مع تحويل شعارات الوحدة العربية إلى مجرد شعارات للاستهلاك والابتزاز والتلاعب، إذ أن هذه الدول لم تقم بأي شيء حتى على صعيد تعزيز التكامل الاقتصادي العربي، أو تعزيز العلاقات الاقتصادية البينية، ولا حتى بين نظامين قوميين (وبعثيين) في سورية والعراق. وتعزز انكشاف هذه الأنظمة، وأيديولوجيتها، مع تهميشها مجتمعاتها، وحؤولها دون قيام دولة المواطنين المتساوين، وتقييدها الحريات، بدعوى قضية فلسطين، أو بدعوى الأمن القومي العربي. وفي المحصلة أثبتت الأنظمة القومية (وكاريكاتيرها نظام القذافي)، أن ادعاءات «القومية» مجرد أداة للمخاتلة والتلاعب وتغطية الشرعية، ما يفسر تحوُّلها إلى أيديولوجيا خشبية أو مجرد شعارات، بمعزل عن مصالح الناس وحاجاتهم وأولوياتهم.
في مرحلة ما، ومع صعود الاتحاد السوفياتي وانتصار حركات التحرر الوطني، وفشل الأنظمة القومية، بدت أيديولوجيا اليسار، المعطوفة على محاربة الإمبريالية والصهيونية والرأسمالية، والمفعمة بوعد العدالة الاجتماعية، بمثابة البديل عن الأيديولوجيا القومية التي باتت مستهلكة. بيد أن هذه، أيضاً لم تستطع أن تقدم نقداً سياسياً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في البلدان العربية، إلا في حالات نادرة، وأغلب النقد جاء من شخصيات يسارية مستقلة أو منشقة، ضمنها إلياس مرقص وياسين الحافظ وعبد الله العروي وفؤاد مرسي وجورج طرابيشي على سبيل المثال. وأخذ هؤلاء على هذه الكيانات اليسارية تحولها إلى مجرد أشكال أيديولوجية جامدة، أو مجرد صدى للاتحاد السوفياتي (السابق)، لا سيما أنها لم تقدم أي إضافة إلى الماركسية اللينينية، وحتى أنها لم تشتغل على «توطين» هذه النظرية في البيئة العربية، فضلاً عن عدم إيمانها بالديموقراطية والحرية، وهو المأخذ ذاته الذي أخذته هنه آرنت على الماركسية.
وإذا كان أفول تياري القومية واليسارية حصل قبل ثورات «الربيع العربي» فإن تيار «العلمانية» التي يحلو لبعضهم تقديمها كأيديولوجيا، أو كمجرد تعبير هوياتي، يدل على نمط التفكير والعيش، تكشف عن مشكلة كبيرة، مع «الربيع العربي»، إذ أنها بدلاً من أن تكون، كما في بداياتها، دعوة إلى تحرير العقل، باتت تبدو كأنها دعوة إلى حصره في تصورات أحادية مغلقة ومسبقة، كما باتت تبدو وكأن لا مشكلة لها مع الاستبعاد وحتى الاستئصال. هكذا بتنا مع بعض علمانيي اليوم كأننا إزاء «داعش» أخرى، بمعنى ما، أي مع علمانية ترفض الآخر، ولا تقبل المختلف، ما يفسّر تماهي هذه الشاكلة من «العلمانيين» مع الاستبداد، وتنكرهم لقطاعات واسعة من المجتمع، إلى درجة إخراجهم من دائرة المواطنة، وهو ما يتعارض مع العقل والأخلاق وقيمة الحرية، وما يفسر سكوت قطاع كهذا من «العلمانيين» (و»اليساريين») عن الجرائم التي يرتكبها النظام في حق غالبية السوريين، ولامبالاتهم إزاء عذاباتهم.
أفول الزمن الأيديولوجي يشمل، أيضاً، أيديولوجيا تيارات الإسلام السياسي، التي وضعها «الربيع العربي»، مع ادعاءاتها، في موضع الاختبار، سواء في السلطة (مصر وتونس) أو في المعارضة (سورية). وهذه التيارات هي التي قوّضت شرعيتها، وأطاحت أيديولوجيتها أو ادعاءاتها بذاتها، قبل أي أحد آخر. وهذا يتمثل بانقساماتها واختلافاتها واقتتالها، على الموارد والسلطة، وفي ادعاء كل منها أنه يمثل صحيح الدين، وأنه وحده ولي أمر المسلمين، فضلاً عن ادعاء كلّ منها القدسية، والتغطي بالشريعة أو بالمقدس، وتبرّم كل تيار بالنقد، ورفضه المساءلة والمحاسبة.
معلوم أن التيارين التكفيري و «الجهادي» أو القتالي، أي الأكثر تطرفاً وتعصّباً، أطاحا تيارات الإسلام السياسي المدني، أو المعتدل، وقوّضا مكانتها، إذ طرحا ذاتيهما كممثل للإسلام الحقيقي والمكافح من الناحية العملية، وتالياً فهما أطاحا شرعية التيارات الإسلامية، بأطروحاتهما التكفيرية، وإظهارهما الإسلام السياسي كمنفصم عن الواقع والعصر والعالم. حصل ذلك خصوصاً بسبب نأي التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة بنفسها عن نقد التيارات الإسلامية التكفيرية والمقاتلة، مع استثناءات قليلة، ضمنها حركة النهضة التونسية، وهو اتجاه يؤمل بأن يمهّد الطريق لغيره.
سيبقى الزمن الأيديولوجي زمناً للثقافة، والنقد الثقافي، أما التيارات السياسية، قومية ويسارية وعلمانية وإسلامية، فالأجدى لها الاشتغال كأحزاب سياسية معنية بمصالح كتلة اجتماعية، وبحاجاتها وأولوياتها، بعيداً عن الأيديولوجيات المغلقة والصراعات الهوياتية العبثية.
الحياة