صفحات الرأي

فكرتان عن الغرب في حوض الدونباس/ وسام سعادة

 

يتصارع اليوم، على حوض الدونباس في الشرق الأوكراني، خياران، وربما كان الأصح أنهما يتهافتان: خيار اللحاق بالغرب، ويقابله خيار الإلتحاق به.

الخيار الأوّل عمره من عمر الإمبراطورية الروسية. معادلته بسيطة: كانت الأراضي التي ستشكل لاحقاً نواة الإمبراطورية تتطور بشكل متقارب حضارياً واقتصادياً مع أوروبا الوسطى والغربية الى أن حلّت كارثة السيطرة المغولية – التتارية على مدى قرنين متواصلين من الاستعباد والتجهيل والنهب. لأجل ذلك لا بدّ من ردم الفجوة مع أوروبا الغربية، انما بالواسطة نفسها التي أوجدتها مرحلة السيطرة المغولية – التتارية: الاستبداد الشرقي بوصفه آلة سحرية لتأطير وتوجيه الموارد الطبيعية والبشرية.

على امتداد أربعة قرون، سوف يصيغ مؤرخون ومفكرون روس كثر هذه المعادلة ويستعيرون لها ما أوتي من عدّة مفهومية ومعرفية: أوروبا هي النموذج انما لا بدّ من بلوغ النموذج بالاعتماد على الاستبداد الشرقي نفسه الذي صنع الفجوة بين روسيا وبين أوروبا ‘الأخرى’.

هذا التعليل لم يحضر في التاريخ الروسي الا مع مكابرة مديدة من نوع أنه على روسيا، في مشروع لحاقها الحضاري والاقتصادي بالغرب، بواسطة آليات الاستبداد الشرقي نفسه، ومن خلال تحديث هذه الآليات بالتضخّم البيروقراطيّ القيصري ثم السوفييتي، أن تحلّ أزمة الغرب نفسه، بل أزمة البشرية جمعاء، ومن هنا كثرة التداول بما يسمّى ‘الفكرة الروسية’، أي بشكل أو بآخر، الربط صوفياً وعضوياً، وسواء بتعليل ديني أرثوذكسي أو مادي تاريخي أو أوراسيّ، بين لحاق روسيا بالغرب (الماراثون التاريخي) وبين انقاذها العالم (تجاوز التاريخ).

ما يستدعي التوقف عنده في هذا المجال هو خلاصة الكتاب الأخير للمؤرخ الفرنسي من أصل روسي جورج سوكولوف ‘التأخر الروسي 882 – 2014′ الصادر حديثاً، حيث أنه، اذ يرصد التطور المقارن في شروط الحياة بين روسيا وأوروبا الغربية، يصل الى ان الفجوة ظلّت تتسع منذ اواخر القرن السابع عشر، وبالتزامن مع طرح النخب التحديثية الروسية لمسألة اللحاق بالغرب. لكنه يسجّل للقرن العشرين ‘السوفييتي’ انه نجح، وبرغم اجتياز روسيا لحربين عالميتين، في تجميد عملية اتساع الفجوة، بشكل كان ينخفض حيناً، ويرتفع حيناً آخر، الى ان عادت الفجوة الى الاتساع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ثم عادت ‘غريزة اللحاق المحموم’ لتفعل فعلها المعاكس مع وصول فلاديمير بوتين الى السلطة.

الا ان خيار ‘اللحاق بالغرب’ قد طغت عليه روسياً نخب ترفض التماهي مع ‘أوروبا’ أو ‘الغرب’ رغم كونها تنظر في الوقت نفسه الى موسكو كـ’روما ثالثة’ من بعد بيزنطة. وفي هذا السياق، يأتي تشنّج المؤرخين الروس ضدّ كل ما من شأنه الاعلاء من شأن ‘النورمان’ و’الفايكنغ’ و’السويديين’ في وضع المداميك الأولى للحضارة الروسية، أواخر الألف الأول بعد ميلاد، يوم كانت النخب النافذة في مملكة ‘روس كييف’ من أصول غير سلافية، على ما تشدّد عليه ‘النظرية النورماندية’ في التاريخ الروسي القديم، التي ترتكز من جملة ما ترتكز عليه على أن ‘الروس′ كانت في الأصل لفظة تطلق على السويديين في تلك الأنحاء، على ما يستدل تحديداً من مشاهدات الرحالة العربي ابن فضلان غداة زيارته لحوض الفولغا.

في مقابل هذا الخيار ‘اللحاق المحتقن والمحموم بالغرب’ تبرز في المقابل النزعة النافذة بين النخبة الاستقلالية الأوكرانية التي استعادت كييف بعد انتفاضة الميدان الأخيرة على انها ‘نزعة التحاق بالغرب’، الصيرورة جزءاً منه، واستعادت فوق ذلك سردية التاريخ المديد لهذا الالتحاق، بما في ذلك المرحلة التي كان يمرّ فيها بالالتحاق بألمانيا الهتلرية.

هنا أيضاً، ثمة مساحة وافية للتنازع بين المؤرخين. بين من يرى ان ‘روس القديمة’ أي مملكة كييف كانت جزءاً من العصر الوسيط الأعلى الأوروبي ومن محدداته الحضارية والاقتصادية الى ان حلّت الكارثة المغولية – التتارية، وبين من يعتبرها بالضد من ذلك جزءاً من ‘كومنولث بيزنطي’ لن يلبث ان تحيي مشروعيته التاريخية والدينية الامبراطورية الروسية.

لكن الطامة في هذا المقام، انّ الأجزاء الشرقية من اوكرانيا والناطقة باللغة الروسية أكثر تطوراً من الناحية الصناعية والاقتصادية من تلك الأوكرانية الغربية المنادية بالالتحاق بالغرب. هذا الواقع من شأنه أن يجذّر الفصام بين اللحاقيين الروس والأوكرانو – روس والالتحاقيين الأوكران. وفي الحالتين تدفع المكابرة الى أقصى حد: تخريب تجربة كيان وطني أوكراني كان باستطاعه ‘لو’ اقرّ تعدديته المناطقية واللغوية على ما هي عليه، ان يؤسّس لقوة صاعدة ومتوازنة في شرق أوروبا وشمال البحر الأسود، بدلاً من أن تتقاذفه أهواء فكرتين منهكتين: اللحاق بالغرب في مواجهة الالتحاق به.

 

‘كاتب من لبنان

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى