عن أي ايران دافع غونتر غراس؟
سلام الكواكبي
غونتر غراس لم يدافع عن إيران السلطة والقمع، إنما دافع عن شعب وعن حضارة تهددهما سياسة عدوانية إسرائيلية لا تجد من يردعها. ومنذ الآن، ارفعوا أيديكم عن غراس أيًاً كنتم، إسرائيليين أو سلطويين عرباً.
أعلن وزير الداخلية الإسرائيلي أن الكاتب الألماني غونتر غراس الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1999 هو شخص غير مرغوب فيه في إسرائيل بعدما اعتبر، في قصيدة نشرتها الصحيفة الكبرى في ميونيخ في 4 نيسان الجاري، بأن إسرائيل ومخزونها النووي يهددان السلم العالمي. واعتبر الوزير لا فض فوه، بأن غراس بقصيدته هذه “يزيد من اشتعال نار الكراهية ضد دولة إسرائيل وضد الشعب الإسرائيلي”. حتى أن الوزير إياه، نصح الكاتب الألماني الثمانيني بأن ينتقل إلى إيران لينظم شعره من هناك.
من جهته، توجه معاون وزير “الثقافة” الإيراني برسالة إلى الكاتب الألماني مهنئاً إياه على قول الحقيقة في قصيدته التي عنوانها “الذي يجب قوله” ومن خلالها يندد غراس بالتهديدات الإسرائيلية بضرب المنشآت النووية الإيرانية. واعتبر المسؤول الإيراني بأن غراس في موقفه هذا متفهمٌ للموقف الرسمي الإيراني ومتضامن معه في مواجهة الضغوط الإسرائيلية.
قصيدة أقرب إلى الخواطر منها إلى الأدب الشعري عبّر من خلالها غونتر غراس عن أفكار متعددة تتجاوز “قصرالنظر” الرسمي الإسرائيلي والإيراني. وفيها يريد الكاتب الجريء في إبداعه وفي مواقفه، أن يقول ما يفكر به الكثيرون من قادة الفكر والرأي دون أن يجدوا الشجاعة الكافية ليعبروا عنه. فصاحب “الطبل” يقرعه لينبّه العالم بأن الدولة التي تهدد بشن الحرب على إيران بحجة إمكان تملّكها السلاح النووي في السنوات العشر المقبلة، تحتوي على أكبر ترسانة نووية في الشرق والتي هي في منأى عن أي منظومة رقابة ومتابعة من قبل الهيئات الدولية المتخصصة.
ويُضيف بأن الضربة الإسرائيلية الموعودة يمكن أن تكون نووية وبالتالي تقضي على شعب إيران بحجة غير مؤكدة. وفي هذا الإطار، يعبّر الكاتب عن غضبه الشديد تجاه بلده ألمانيا، الذي بعد تعهده بالابتعاد عن الانخراط في الشؤون الحربية في العالم منذ هزيمته في الحرب العالمية الثانية، يقوم منذ فترة قريبة ببيع سادس غواصة إلى إسرائيل مزودة بإمكانية حمل أسلحة نووية.
وقد انتقد الذين حاولوا الحفاظ على نوع من الحياد في هذه القضية غراس لخلوّ القصيدة ـ الخاطرة من أي نقد للحكومة الإيرانية. ويبدو أن الديبلوماسية والتوازن النقدي أصبحا أساساً في النقد الأدبي أو حتى السياسي. ففي مقالة أو قصيدة أو أي نصٍ فكري، يحاول الكاتب أن يسلّط الضوء على قضية بعينها، له كامل الحق بأن لا يبحث عن تحقيق التوازن في النقد. وليس مطلوباً منه في معرض نقده للسياسة الإسرائيلية التحريضية على قيام حرب مدمّرة في المنطقة بأن ينتقد سلطوية الحكم الإيراني وممارساته الداخلية والإقليمية التي تساهم في تعزيز المواقف الإسرائيلية وإعطائها غطاء دولياً أحياناً، وهو الذي يبدو جلياً من خلال التصريحات الإيرانية بمحو إسرائيل من الخريطة والتي يعتبرها الملاحظون السياسيون الوقود الكافي والوافي لكل التصريحات الإسرائيلية التحريضية والاستجدائية.
غونتر غراس لا يتبنى هذا الموقف لأنه في سن الشيخوخة ولم يعد يخاف من عواقبه، فهو صاحب مواقف مثيرة للجدل منذ شبابه البوهيمي. وهو تحمّل مسؤولية الاعتراف بانخراطه في الشبيبة الهتلرية شارحاً الأمر بأنه كان في مرحلة بحث عن الذات وعن الاعتراف. وفي هذا، درسٌ للكثير من المثقفين في البلدان العربية الذين انخرطوا قلباً وقالباً مع أنظمة استبدادية قريبة من الفاشية في عقائدها ودافعوا عن أنفسهم بعد سقوطها بأنهم كانوا مجبرين غير مخّيرين. وهم غير قادرين على الوقوف أمام المرآة والاعتراف بأن مواقفهم كانت نابعة من جبنهم أو مصالحهم الضيقة ولا علاقة لها حتى بالتبرير الأعمق الذي استخدمه غراس في معرض حديثه عن النازية. وبالطبع، فهو قد كتب الكثير عن المجتمع الألماني بعد الحرب وعن آثار الجرائم الفظيعة التي ارتكبها النازيون بحق اليهود وغير اليهود، وعن أثر هذا التاريخ في الأجيال المقبلة التي ستتحمّل مسؤولية تاريخية لم تلعب فيها أي دور.
غونتر غراس قال ما يجب قوله وما يفكر بقوله الكثير من النخب السياسية والثقافية في الغرب ولا يجرأون لوجود “الإرهاب الفكري” المتمثّل بتهمة معاداة السامية. هذه التهمة التي أصبحت أسهل من مخالفة السير في الصحافة وفي الإعلام الغربي، حوّلت القضية إلى شيء ممجوج. وقد ساهم من يتبنّونها، من حيث يدرون أو لا يدرون، في تعزيز المعاداة الحقيقية للسامية. فتسطيح مفهوم هذه العبارة الخطيرة بحيث يُصار لاستخدامها ذات اليمين وذات اليسار، ينقلها من حيّز الحقيقة إلى حيّز الوهم ويُضفي عليها سهولة في الاستخدام تكاد تُقارب الكوميديا. معاداة السامية تحدث عنها غونتر غراس بعمق في كتابات عديدة منذ الخمسينات من القرن الماضي، وانتقاد سياسات إسرائيل التوسعية والاستيطانية والاحتلالية لا علاقة له قطّ بدين من الأديان، بل هو على علاقة مباشرة بسياسة دولة لا تمثّل اليهود وإنما تستغل مأساتهم التاريخية وتأخذهم كرهائن، كما تمارس بعض السلطة العربية المستبدة عملية الاستغلال للأقليات الدينية التي لديها وتحتفظ بها كرهائن أمام المطالبات الشعبية بالتحرر.
من المؤكد بأن الكثير من المثقفين العرب الذين سبق وصفهم قبل سطور، سيتبنون الدفاع عن غونتر غراس من منطق لا سامي أو من منطق تبني مواقف سلطاتهم السياسية، كما السلطة الإيرانية، في محاولة استغلال الضعف التاريخي الغربي أمام نقد الدولة الإسرائيلية لتبرير مواقف متطرفة أو لنقد مواقف من يعارضهم والاستشهاد بغونتر غراس، كما استشهدوا من قبل بروجيه غارودي، مع أن عمق وثراء وصدقية الأول لا يمكن أن تقارن بحال من الأحوال بضحالة ووصولية الثاني، ولكن كلّهم لديهم “صابون” يريدون من خلال استغلاله تنظيف أياديهم، دون ضمائرهم، الملطخة بدماء شعوبهم وتحويل النظر عن القضايا الأساسية التي يعانون منها.
غونتر غراس لم يدافع عن إيران السلطة والقمع، إنما دافع عن شعب وعن حضارة تهددهما سياسة عدوانية إسرائيلية لا تجد من يردعها. ومنذ الآن، ارفعوا أيديكم عن غراس أيًاً كنتم، إسرائيليين تريدون تحطيم تراثه في خريف عمره أو سلطويين عرباً تريدون استغلال قضيته في حربكم الشعواء ضد الحرية وتمارسون من خلال ذلك دعماً ثميناً للسياسات الإسرائيلية وأنتم بهذا على دراية. إنه “رجل من عصر التنوير”، كما قالت الأكاديمية السويدية عند منحه نوبل.