عن إحياء منطق المسؤولية والأخلاق العمومية/ برهان غليون
أثارت مقالتي “في الثورة السورية والمراجعة وثقافة المسؤولية” ، ذكرت فيها أن قليلا (مع التشديد) ممن تقلدوا مناصب وصلاحياتٍ في مؤسسات المعارضة فكّروا بمراجعة تجربتهم، أثارت ردود فعل متباينة وسط المعارضة السورية. لم يكن هدفي الحديث عن الأشخاص، ولا التذكير بسيرهم أو أعمالهم، ومعظمهم من الأصدقاء والمعارف، سواء كانوا في المعارضة القديمة أو الجديدة أو بين صفوف المنشقين الذين لا يستطيع أحد أن ينكر شجاعتهم الأدبية والشخصية معا، والذين كنت من أكثر المدافعين عن إدماجهم في صفوف الثورة منذ البداية، ولم أتردد في التعاون معهم، كما يعرف أكثرهم، عندما كنت مسؤولا في المجلس الوطني وبعده. كان هدفي التفريق بين سياسة غياب الشعور بالمسؤولية التي سيطرت على عقلية النخب الحاكمة في سورية بشكل خاص، لكن أيضا في بقية البلاد العربية، في الحقبة السوداء الماضية، حتى أصبح رئيس جمهورية يتمتع بسلطات مطلقة، ولا نهائية، تجعله يتحكم بحياة كل فرد، ويملك حق الحياة والموت على الناس، لا يتردّد في القول، بعد اندلاع الثورة السورية والمحرقة التي وضع فيها بلاده، أنه لا يشعر بأي مسؤولية عما يجري، وأن ما يحصل هو نتيجة مؤامرة أجنبية ومنظمات إرهابية، مع العلم أنه أول من أطلق قادة هذه المنظمات من سجونه، ليخلق منها خصما، يبرّر بها خياراته التصفوية الشنيعة والإجرامية بحق شعب جرّده من كل سلاح، بما في ذلك حق التعبير والحماية القانونية. ولا أخفي أن أكثر ما لفت نظري وآلمني في أول تجربة لي في قيادة المجلس الوطني كان ملاحظتي ضعف هذا الشعور بالمسؤولية العامة، وطغيان الحسابات الشخصية والخاصة على الحسابات الوطنية الكبرى.
تقضي المسؤولية، بكل بساطة، أن من واجب أي شخص يتقلد منصب سلطة، مهما كان نوعه، بما في ذلك في المنظمات والجمعيات المدنية، أن يقدّم جرد حساب عن عمله خلال فترة ولايته، لمرؤوسيه، كما أن من حق المرؤوسين أو المحكومين أو أعضاء الجمعية العاديين أن يعرفوا، من قياداتهم أو مسؤوليهم، طبيعة الخيارات التي وجهت عملهم وسياساتهم، والغايات التي كانت ترمي إليها، وما نجحوا في تحقيقه وما عجزوا عنه، وأين ظهرت العقبات، وكيف يمكن، بعد التجربة، مواجهتها وتذليلها. وفي نظمنا الحديثة، تعني المسؤولية حق التصرف بسلطة وموارد محدّدة بالنسبة للمسؤولين، وحق المساءلة والمحاسبة لهم ممن يخضع لسلطتهم.
“آلمني في أول تجربة لي في قيادة المجلس الوطني كان ملاحظتي ضعف هذا الشعور بالمسؤولية العامة، وطغيان الحسابات الشخصية والخاصة على الحسابات الوطنية الكبرى” وبذلك، تتحول المسؤولية، باعتبارها التزاما بواجب العمل على تحقيق الغايات المتفق عليها من القادة، ومحاسبة من العاملين تحت سلطة أعلى، إلى قاعدة أساسية من قواعد تنظيم العمل، وتطوير الأداء، وتوزيع المهام والصلاحيات. فالقيادة التي تحتكر أو تكاد مهام التصميم والتخطيط والتوجيه تتحمل قسطا أكبر من المسؤولية، بمقدار ما يحوز حاملها حقاً أكبر أيضا في النفوذ إلى الموارد والتحكم بها، وبمقدار ما يتوقف عليها نصيبٌ أكبر أيضا من نجاح العمل أو فشله. ومن هنا، توجيه المساءلة بشكل رئيسي إلى عناصر النخبة والقيادة. وهي وسيلةٌ أيضا لفرز عناصرها بالنسبة للشعب أو القاعدة وتقديم الأكثر وعيا ونزاهة وقدرة على حمل المسؤولية على غيرهم. فكما أن الفشل يُضعف من صدقية القيادات، ومن الثقة المعلقة عليها، يزيد نجاحها من شعبيتها وتأييد الجمهور لها، ويضاعف من رصيد الثقة المعقودة عليها.
نظام المساءلة ونظام الولاء
هكذا يشكل مفهوم المسؤولية، بما يتضمنه من واجب الالتزام بالمصلحة العامة عند المسؤول، ومن حق المساءلة عند المرؤوس، عنصرا رئيسيا في عملية تكوين القيادة في نظام الديمقراطية التي تستمد السلطة العامة شرعيتها من المصادقة والمشاركة الشعبيتين. والتي تتضمن الاعتراف أولا بسيادة الشعب، وثانيا المساواة بين جميع أعضاء الجماعة الوطنية في الواجبات والحقوق، وفي مقدمها الحرية التي تترجم سياسيا بحق الاختيار. البديل عن هذه المنظومة التي تتيح للجميع، باعتبارهم مواطنين أحرارا، النفوذ إلى مناصب المسؤولية، لكنها تلزمهم بشرط المسؤولية والمساءلة الذي يضمن تغييرهم بطريقة سلميةٍ هو فرضها بالقوة. وأفضل نماذجها هنا أيضا حكم البعث السوري الذي نص دستوره، في مادته الثامنة، على أنه القائد للدولة والمجتمع، محتكرا بذلك مهام القيادة على جميع المستويات السياسية والعسكرية والمدنية، ملغيا سيادة الشعب، ومصادرا بجرّة قلم حقوق المواطنين وحرية اختيارهم. وفي المحصلة، كما بينت تجارب الأحزاب الفاشية والشمولية والاستبدادية جميعا، يتم تقديم القيادات في هذه النظم على أساس التعيين، الذي يرسو، في النهاية، على شخص الرئيس الأوحد، والذي يمارسه على أساس مبدأ الولاء، فيقدم الأكثر ولاءً، ويبعد من يشك في ولائه. وليس المقصود هنا الولاء للدولة أو الوطن، وإنما الولاء للرئيس وحده الذي يتجسد في الطاعة والتبعية والتسليم له من دون نقاش بوصفه السيد الأعلى. هذا ما قامت عليه النظم التقليدية، وهو الذي أعادت إحياءه نظم الاستبداد الحديثة.
هنا ليس لعناصر القيادة ومحتلي مناصب السلطة أي ديْن تجاه مرؤوسيهم، وإنما تجاه من عيّنهم وحده، وهو صاحب السلطة التي حرّرت نفسها مسبقا من أي التزاماتٍ قانونية أو أخلاقية، وفرضت وجودها بالقوة المجرّدة. فهي نبعت بالفعل من فوهة البندقية، ولا يضمن وجودها واستمراها سوى ما تمتلكه من فرص النفوذ إلى موارد العنف، وتتمتع به من جرأة على
“من حق الشعب الذي ضحّى بكل شيء أن يعرف الوقائع، وأن يشهد نقاشا جدّيا وموضوعيا بين من تقلد مناصب المسؤولية في النشاط العام بكل أشكاله” استخدامه من دون ضوابط أخلاقية أو سياسية أو قانونية. وربما كانت هذه الجرأة على تجاوز أي خطوط حمر في استخدام العنف، وعلى أوسع نطاق، وأعلى أطواره الإرهاب، هي مصدر قوة نظام الأسد الأول والثاني، ليس في مواجهة الشعب الذي يتحكّم به، ولكن العالم أيضا. وهو نموذج يتعالى على أي مساءلةٍ، كما يرفض القبول بأي ضوابط قانونية أو أخلاقية. ولذلك، لم يجد زعماؤه حرجا، منذ بداية حكمهم، في تعليق الدستور والقانون والحكم بواسطة مراسيم يصدرها الرئيس، اللامسؤول أمام أحد بالتعريف، حسب ما يشاء. وهذا هو في الواقع منطق نظام الغزو والاحتلال والاستعمار، وهو أيضا منطق التطفل والطفيليات التي تعيش على امتصاص دم الأحياء وعلى حسابهم. ومن الطبيعي ألا يكون لدى المحتل والمستعمر أي شعور بالمسؤولية تجاه ما يحصل لضحاياه، وأن ينمو لديه بالعكس شعورٌ لا يقاوم بأن الضحية ليست في وضعها، إلا لأنها خلقت لتكون كذلك. وهي بالتالي لا تستحق حياةً أفضل، ومطالبتها بغير ما هي عليه هو إنكار لحق الحياة على المستعمر. ومن الطبيعي أيضا ألا يتعامل أهل المستعمرات، أو الطفيليات، مع هذه الحيوات الضعيفة، إذا أرادت التحرّر من موتها المحتوم، إلا كحشرات تنغص عليهم حياتهم وتحرمهم من حقهم في الوجود، واستكمال مسيرتهم إلى المجد والارتقاء، ولا يرون في القضاء عليها بالجملة إلا مهمة تاريخية مقدّسة وتقربا من “إلههم”.
من هنا، في إعادة إحياء منطق المسؤولية تجاه الشعب والمواطن تكمن، في ما وراء السياسة والاقتصاد والحروب والانتصارات العسكرية، استعادة منظومة سياسية وأخلاقية واجتماعية كاملة من العلاقات الاجتماعية التي تصطدم بقوة مع بقايا نظام اغتصاب السلطة، وعقلية الولاء والاستتباع والإذعان التي نمتها خمسة عقود من استزلام النخب السورية، واحتقار الناس والإنسان، والاستهانة به وبأرواحه، والتعامل معه كما لو كان عبئا وعالة. فالمسؤولية تذكر أولا بالطبيعة الأخلاقية لحمل المسؤولية، وهي الواجب والالتزام في مقابل ما ساد من استغلال المنصب للانتفاع والاستمتاع على سبيل التمجّد والوجاهة، أو الإثراء والانغماس في حياة البذخ والرفاهية. وهي تعيد إلى الذاكرة وجود الناس، وتفرض الاعتراف بهم واحترام رأيهم وقرارهم ومخاطبتهم على مستوى الندّية، على الرغم من ضعفهم وتدني شروط حياتهم الاجتماعية، أو نقص تمثلهم للحداثة وقيمها. ويعني أخيرا القطع مع ثقافة الولاء الذي يفتح المجال أمام كل التجاوزات القانونية وغير القانونية، وتكوين شبكات الزمالة والشللية، لتعظيم المنافع والمكاسب والامتيازات، والتي قام عليها نظام كامل من الاستباحة العلنية لجميع العقود والحدود والمحرّمات التي تحمي حياة الناس وحقوقهم، في كل المجتمعات، ضد إغراء استسهال استخدام القوة والعنف، وتعميم سياسات النهب والسلب والإهانة والاستعباد، والتي ستولد منها عقلية التشبيح ومليشياتها، قبل الثورة وبعدها. وهي العقلية التي ألغت الشعور بأي مسؤوليةٍ تجاه الناس، المحكومين والمستضعفين، كما ألغت مفهوم المصالح العامة، وقوّضت فكرة الدولة ذاتها. هكذا تحولت جميع المؤسسات والأفراد إلى أدوات يستخدمها المنتصر والمتجبر، لخدمة مصالحه الخاصة، وتعظيم موارده وثرواته، من دون أي خجل أو خوف أو شعور بمخالفة قانون أو ارتكاب جريمة أو جنحة أو ذنب. وهذا هو المنطق الذي حوّل المسؤول إلى مفترس، بدل أن يكون راعيا، وحوّل الدولة ومن فيها إلى حقل صيد مفتوح، من دون حساب أو حدود لكل مقتنص، وأحلّ أخلاق الكذب والنفاق والرياء وطمس الحقيقة والحق محل أخلاق الصدق والصراحة والشفافية.
بين المراجعة السياسية وخطاب التشهير والتخوين
المراجعة هي أولا دليل الشعور بالمسؤولية تجاه البشر الذين وضعوا مصيرهم على كفهم من أجل الحرية. وليس لها أي علاقةٍ بنقد الأشخاص أو محاكمتهم أو اتهامهم. وهي موجهة نحو فحص صلابة الخطط والمواقف والأفكار التي وجهت الفاعل ذاته، وهو هنا المعارضة. باختصار نحن نراجع أنفسنا، بينما ننتقد أندادنا، ونتهجم على خصومنا ونهاجم عدونا..
وبالنسبة للمعارضة، ليست المراجعة مهمة لتقويم خططنا وإصلاح أدائنا فحسب، ولا لتأكيد احترامنا شعبنا واعترافنا بأهليته وتشجيعه أيضا على الدخول في منطق المسؤولية والمساءلة، وتعظيم دوره وقدرته على محاسبة قيادييه، وإنما هي مهمة أكثر من ذلك، لاستعادة الثقة واكتساب الصدقية، والتغلب على الشكوك والاتهامات التي يثيرها التنافس والنزاع في المجالات العمومية، والتي فاقم من أزمتها فشل المعارضة نفسها في القيام بواجباتها. لقد خسرنا الكثير، كما ذكرت في مقالتي السابقة، من تهميش المنشقّين التي كانت مؤسسات المعارضة بأمس الحاجة إلى خبراتهم، لأنهم لم يعرفوا كيف يتفاعلون مع جمهور الثوار والناشطين، ويحصلون على ثقتهم، ما أبقى الشكوك تحوم من حولهم، غالبا من غير حق. وكان بإمكانهم ببساطة أن يبدّدوها بالتوجه إلى الجمهور، كما فعل بعض منهم، وتفسير موقفهم، وشرح تجربتهم، وتوضيح ما حصل بالضبط والاعتذار للشعب إن كان هناك ضرورة للاعتذار. ولا يُنقص الاعتذار للشعب من قيمة أحد، بل بالعكس إنه يزيدها. وليس هناك مدخل أفضل لكسب ثقة الشعوب سوى مصارحتها، لما تعنيه من أخذ الشعوب بالاعتبار، واحترام عقلها ومشاعرها واستقلالها.
ومن واجبنا أن نعمل على إدخال هذا التقليد السياسي الجديد في حياتنا السياسية جزءاً من ثقافة الحرية وممارسة المواطنة الحقيقية. وإذا لم نبدأ منذ الآن في تربية أنفسنا وجمهورنا على أخلاق المسؤولية، لن نستطيع أن نخلق بديلا عن نظام الأسد، ومؤسساته القائمة على قتل معنى المسؤولية، وتعميم مبدأ العسف والتعسف الأعمى، وفرض الأمر الواقع بالقوة المسلحة والعنف. وأكبر دليل على ذلك تكاثر وتناسل إمارات الحرب والمليشيات الطائفية التي لا مقوّم لها سوى ثقافة اللامسؤولية الوطنية ومنطق الولاءات الشخصية واستتباع الآخرين، وردهم إلى حالة العبودية، والتصرّف في المجتمع كما لو كان حقل صيدٍ لتأمين المكاسب الخاصة والمتع الشخصية. وفي هذه الحالة، لن يملأ الفراغ الذي سيتركه انهيار نظام الولاء الأسدي ودولته، سوى سلطات الأمر الواقع المتوازية والمتعادية. وسوف نتخبّط طويلا في بناء (وتهديم) دويلاتها التي تستلهم نموذج العهد البائد وأسسه، باسم شرعياتٍ زائفة، دينية أو زمنية، قبل أن ننجح في إعادة تأهيل نظام الدولة ونظامها.
كما كان تقويض معنى المسؤولية، وتبرير استباحة القانون والأخلاق والأعراف والتقاليد، السلاح الأمضى لتدمير تماسك المجتمع، ونوابض قوته المعنوية وقدرته على تنظيم نفسه ومقاومة طاعون الطغيان المستشري، يشكل العمل على إعادة إحيائه الخطوة الأولى والأساسية في استعادة معنى الأخلاق التي لا تقوم من دونها التزاماتٌ اجتماعية، ولا تبنى نظم الحرية والتعدّدية الديمقراطية التي تتوق إليها شعوبنا. ومن المنتظر والواجب أن تبدأ النخب الاجتماعية نفسها في تطبيق هذا المبدأ عليها، حتى تشجع الشعوب على السير في طريق غيبته عن نظرها عقودا طويلة من الإفساد المنهجي والطويل لكل مؤسسات الدولة والمجتمع، لم تنجُ النخب نفسها من آثاره.
في المقابل، لن يكون البديل عن غياب الشعور بالمسؤولية ورفض المراجعة والمساءلة والمحاسبة الذاتية لدى النخب الاجتماعية، بعد الثورة العظيمة، التواطؤ على الفساد والغش والنفاق، كما كان عليه الأمر في السابق فحسب. وإنما سيكون ثمن السكوت على الخطأ والتهرّب من المسؤولية ردّ فعل قوياً، بدأ يتبلور منذ الآن في نمو ثقافة التخوين والتشهير
“كل الاعتذار للشعب السوري الأبي، باسمي وباسم المعارضة التي دفعتني الظروف إلى رئاسة مجلسها الوطني الأول في بداية انطلاقها، عن تقصيرنا الكبير” وفقدان الثقة بالجميع. غياب المحاسبة الذاتية الطوعية عند المسؤولين، ورفض الاعتراف بأخطائهم وتصحيحها، لا يحمي النخب من المحاسبة أبدا، ولكنه يشجع الجمهور الذي يتحمّل نتائج خياراتهم السلبية، من دون أن يملك مفاتيح فهمها، على الاستثمار بشكل متزايد في ثقافة الاتهام والتشكيك، والتعرّض للحياة الشخصية، على سبيل الانتقام، وعلى حساب نقد الأفكار والخطط والتصورات. وفي النتيجة، سوف نشهد تدهورا متزايدا في الأخلاق العامة، بموازاة تدهور الممارسة والفشل في بناء الدولة، وستتضاءل فرصنا لاستعادة التفاهم، وتزيد مخاطر تفاقم الشك وانعدم الثقة بين القادة والمحكومين. شعور المسؤول أو القائد أن عليه واجبا في تفسير سلوكه لا يعكس احترامه جمهوره فحسب، ولكن أكثر من ذلك لنفسه وضميره. وهو أول علامات الخروج من نظام التعمية والغش والكذب والاستغباء الذي تعاملت به النظم الاستبدادية الظلامية مع شعوبها، وبداية تكوين ثقافة جديدة وطنية مواطنية، تتناقض تماما مع ثقافة التهميش والإقصاء والإذلال والامتهان والاستعلاء والاحتقار.
ليست المراجعة مطلبا شخصيا أخلاقيا فحسب، إنها اليوم مطلب شعبي، أي سياسي. ولن تقوم بعد الآن سياسة من دون عودةٍ إلى قيم الصراحة والشفافية والصدق. ومن حق الشعب الذي ضحّى بكل شيء أن يعرف الوقائع، وأن يشهد نقاشا جدّيا وموضوعيا بين من تقلد مناصب المسؤولية في النشاط العام بكل أشكاله، السياسي والمدني والفكري والعسكري، يلقي ضوءاً على التجربة العظيمة والمأساوية معا. وهذا النقاش عمل ضروري وواجب، حتى يتمكّن الشعب من استيعاب ما حصل، والتغلب على مشاعر الإحباط وفهم المأساة وتجاوزها. والهرب من هذه المسؤولية لن يلغي هذا المطلب، ولا يجيب عليه، ولكنه يحرم النخب الاجتماعية الجديدة الطامحة إلى المشاركة في المسؤولية العمومية من فرصة تحرّرها من ثقافة الماضي التسلطية والسلطوية، ومن استعادة الثقة، ولعب دور حيوي في مستقبل وطنها وشعبها. وربما قاد إلى دفع النخبة المنقسمة، والنازعة إلى رمي المسؤولية على الآخر إلى الانجرار وراء منافسةٍ على التحطيم المتبادل لصدقية بعضها بعضا، ومن ورائها إلى تحويل الحوار المنشود إلى مهاترات مأساوية. وعندئذ، بدل أن نفتح صفحة جديدة من المناظرة الوطنية لإغناء التجربة وتطويرها، نغامر بالسقوط في منطق تبادل الشتائم والاتهامات، فنخسر “الدنيا والآخرة”. في هذه الحال، قد تملي الحكمة وقف الجدال، في انتظار الوقت الذي يستطيع فيه الفاعلون التمييز بشكلٍ أفضل بين الهجومات الشخصية التي تهدف إلى التجريح المجاني ونقد الفكر والطروحات النظرية التي تتعلق بفهمنا الواقع والتأمل العقلاني في إمكانات تغييره. مع الاعتذار لجميع الأخوة الذين شعروا أنهم استهدفوا من دون حق، وقبل ذلك كل الاعتذار للشعب السوري الأبي، باسمي وباسم المعارضة التي دفعتني الظروف إلى رئاسة مجلسها الوطني الأول في بداية انطلاقها، عن تقصيرنا الكبير، وما أظهرناه من ضعفٍ وعجز عن الارتقاء إلى مستوى تضحياته، وفشلنا في تأدية واجباتنا وإصرارنا على التمسك بأخطائنا.
العربي الجديد